السبت، 16 مارس 2013

الصور


وجد أبي في مكتبه دون كثيرٍ من البحث والتفتيش عددًا من الصور التي التقطها أو جمعها خلال عمله بالإخراج الفني لجريدة فلسطين الثورة التابعة للـ م.ت.ف.
والدي قضى أوقاتًا كثيرًا متنقّلًا مشيًا على الأقدام من معهد الفنون الجميلة في الروشة حيث درس الهندسة الداخلية إلى مكتب الجريدة في شارع الحمراء, ذلك المكتب الذي يعبق بخليط عجيب من الروائح كتلك التي يحكي عنها إلياس خوري في رواياته حيث تختلط روائح القهوة والسجائر والجوارب والخراء والكحول بالعفن الذي يأكل الحيطان ونشّ الجدران ورائحة البول المتصاعدة من النافذة المطلة على موقف السيارات لأن صبيًا لم ينجح أحد في اكتشافه لسنوات عديدةٍ تلت اجتياح بيروت وخروج الـ م.ت.ف منها وإغلاق الجريدة وتركها للمكتب, بقي مصرًّا على التبويل على الحائط الذي كتب عليه دون جدوى مرّات عديدة " يا صاحب الشرف الرفيع لا تبول هنا", "لا تبول" هكذا دون شدّة على الواو.
العاملون في الجريدة كانوا هم أيضًا مزيجًا من جنسيات متعدّدة, فصيح السوري, ربيع الفلسطيني, عبد الرحمن اليمني ورضوان والدي الجنوبي والكثير غيرهم.لكن عبد الرحمن كان الأكثر تميّزًا, الرجل الذي يعمل في التحرير يمكنك أن تشمّ رائحته وتميزها من بين كل الروائح الآخرى ما ان تدخل المكتب, رائحة قدميه اللتين تطلان عليك من تحت مكتبه واللتين لم يبدّل جواربهما منذ أمدٍ بعيد إضافة للبرتال الذي أضحى لونه أصفرًا لندرة غسله وكذلك رائحة العرق التي تنبعث منه بمجرد أن يفتح فمه.عبد الرحمن الثلاثيني والذي لا أستطيع إلا أن أتخيله عبد الرحمن منيف في بورتريه لمروان قصاب باشي,




 ظل مميّزًا برائحته تلك إلا ما قبل الشهرين الأخيرين من اقتحام المدينة إذ انقلبت حاله  وأصبح حريصًا على الاستحمام وتغيير ملابسه يوميًا واختفت كؤوس العرق عن مكتبه وفوق ذلك كله أضحى الرجل مثابرًا على الصلاة في موعدها.
عند رحيل منظمة التحرير رحل عبد الرحمن مع من رحلوا, هل عاد إلى اليمن وغدى شاهدًا على الصراعات الداخلية وعلى الوحدة بين اليمنين؟ أم أنه ذهب مع قيادة المنظمة إلى تونس؟
لا أعرف أو بالأحرى ان والدي لا يعرف ما حلّ بعبد الرحمن. المهم أن والدي قد بقي في بيروت - صحيح والدي من جنوب لبنان وليس جنوب اليمن- وظل يمر مع من بقي من العاملين في الجريدة على المكتب بين الفترة والأخرى بخشية وخوف من أن يقوم أحد بالوشي بهم. بكل الأحوال لنذهب إلى المهم, المهم حقًا أن والدي خلال فترة عمله في الجريدة جمع كمياتٍ كبيرةٍ من الصور,كمياتٍ كبيرةً جدًا أتخيلها موضوعةً في صناديق كرتونية ملوّنة كتلك التي كانت تضع أمي بها مجلاتي, لكن للأسف فقد ضاعت معظم هذه الصور, بعضها أضاعه قصف البيت في الجنوب خلال حرب تموز 2006 والبعض الآخر رمتّه الأم (جدّتي) ربما لعدم أهميته ولاستحواذه على مكان أغراضٍ أخرى أما الباقي فقد ضاع أثناء الانتقال من مسكنٍ إلى آخر و بسبب الإهمال والصراعات المتتالية وحالات اليأس التي تنتاب الإنسان من حينٍ لآخر. هذا ما يقوله والدي لكنني أشعر أنه يخفي هذه الصور في مكانٍ ما لشغفه بطمس التاريخ ونسيان القصص القديمة ثم محاولة إستعادة ما طمس ونسي شيئًا فشيئًا وببطئ على فتراتٍ زمنيةٍ طويلة كألف ليلة وليلة, وهذه القصص والحكايات كثيرة كشقيقة صديقه التي أحبها وصراعات الضيعة الدموية بين اليسار وأمل والإقطاع وبطولات الأخ في مواجهة إسرائيل والعم الذي قرّر الإنضمام للفدائيين بعد خطاب التنحي لعبد الناصر إثر النكسة وانقسام العائلة خلال صراع أمل, حزب الله ومقاطعة أفرادها بعضهم بعضًا لفترة طويلة. بعد أن انتهيت من كتابة الفقرة فوق انتبهت أن الأمر ربما ليس شغفًا بتناسي الماضي, بل المسألة فقط أن المرء لا يتذكر الأشياء دفعة واحدة وإلا فإنه سيقضي حياته كلها وهو يحكيها.

المهم, لنعود إلى المهم الآن وهو الصور الباقية والتي وجدها والدي دون عناء كبير والتي لم تكن مغطاةً لا بالغبار ولا بشباك العناكب بل موضوعة في ظرف أسمر وهذه هي الصور سأضعها بترتيب مرورها على الـ
scanner , بعضها أوحى لي بشيء ما وبعضها الآخر ذكرني بأبيات شعرية و بعض منها كان مليئًا, مليئًا بالعناصر.
******


(1)














أعرف أن صورةً كهذه قاسيةٌ جدًا كي يبدأ العرض بها. هذه الصورة تمّ التقاطها بعد مجزرة صبرا وشاتيلا, ولقد حاولت عدّ الجثث المغطاة خلف المرأة المنتحبة, ورغم صعوبة العد لأن بعض الأقدام قد تمّت تغطيتها فإنني أعتقد أنه يوجد بين 16 و17 جثة.أعترف أن ما قمت به غبي بعد الشيء ولكنني لم أستطع أن لا أقوم به, 











هل يمكن أن يكون جميع هؤلاء الرجال -أعتقد أن كلهم رجال بسبب أحذيتهم- أقرباء للمرأة المنتحبة؟
على فكرة في المرّة الأولى التي نظرت فيها إلى الصورة ظننت أن المرأة تجلس على حافة نهر, ربما لأنني نظرت من بعيد لكنني عندما اقتربت منها وشاهدت الرجال, تذكرت ما يقوله أبو الطيب المتنبي:

... وموج المنايا حولها متلاطم








(2)



































هذه الصورة لم تعني لي الكثير الولد يمسك ورقة من فئة الـ100 ليرة, لماذا أصف لكم ما يوجد في الصورة وهي أمامكم؟






 المهم فكّرت بأمرٍ ما ان قمنا بعمل زوم ان على عين الصبي كم شخص سيعتقد أنها عينٌ لامرأة؟






(3)

































هاتين الصورتين من الصور التي يعتقد والدي أنها من تصويره, ويقول أنها تصور واحدة من أول مظاهرات حزب الله وأن مظهرًا كهذا كان صادمًا في وقتها.
أحببت هاتين الصورتين كثيرًا لكثرة التفاصيل التي يمكنك أن تجدها. خاصة في وجوه النساء,





















فإذا نظرنا للمرأة التي يبدأ الصف بها يمكننا بسهولة ملاحظة شيء من عدم الطمأنينة في نظرتها والتي تبدو موجّهةً إلى المصوّر وكأنها ترجوه أن لا يصوّرها, خلفها يوجد امرأتين أخرتين تنظران أيضًا إليها اعرف أن طريقة قطع الصورة تظهرهم كالملاك والشيطان اللذان يقفان على كتف البطل في المسلسلات الكرتونية.

لننتقل الآن للمرأة الثانية والتي تبدو كأنها مركّزة اهتمامها بشكل كامل للأمام لكنني أشعر أن نظرتها هذه  متعمدة كي لا تنظر للكاميرا ومن خلفها يوجد ربع جزء من وجه تدّل عين صاحبته 
على الخوف وخلف جزء الوجه هذا يوجد الجزء الأكثر جمالًا في الصورة, ربما بسبب حركة يدها.

أما الصورة الثانية فإذا نظرنا إلى أعلاها نجد ثلاثة أشخاص يقفون على البلكون وغالبًا هم شخصان راشدان (رجل وامرأة وربما امرأة غير محجّبة) مع صبي صغير, 














تحتهما نجد مكتبة اسمها الشرق الأوسط.



































إذا نزلنا قليلًا أيضًا وركّزنا على النساء الأربعة المقابلين للكاميرا نجد أنه خلف المرأة التي ترتدي حجابًا أبيضًا والتي تنظر للكاميرا بنوع من الاستهجان وخلفها نرى رجلين أحدهما عجوز ويرتدي قلنسوة بيضاء وإلى جانبه رجلًا آخر والاثنين ينظران للكاميرا أيضًا.المرأة الثانية تنظر للكاميرا بنوع من التحدي بينما تنظر الثالثة أيضًا للكاميرا وهي تحاول أن تحدّد موقفًا منها

ويمكننا أن نلحظ أنها ترتدي صندلًا أبيض وترتدي معه جوارب من اللون نفسه ويبدو أن مقدمة الجورب قد اتسخت قليلًا, أما المرأة الرابعة فإنها تصلح حجابها.


هناك أيضًا ولدين ممسكان بيديّ أمهما وربما يمسك الصبي الثاني لعبةً سلاحًا بلاستيكيًا.


وأخيرًا يمكننا ملاحظة بعض "الأرجل الذكورية" والتي تدل على أن المسيرة مقسومة إلى قسمين: رجال ونساء.








 (4)

































هذه الصورة لم تجذبني كثيرًا, التأليف جيد, ومكتوب خلف الأولاد على التنك في حال أن هنا شخص لم ينتبه "22 شباط عيد الجبهة الديمقراطية", هناك أمر واحد هو الفتاة التي تحتضن بنتًا أو صبيًا صغيرًا لست متأكدًا والصبي الجالس إلى جنبها.




































الفتاة على وجهه شيء من الانزعاج الذي يزيدها جاذبية أعتقد أنها عندما كبرت أصبحت فتاة جميلة بينما الطفل في حضنها هو الوحيد الذي ينظر للكاميرا, أما الصبي فبإمكانكم من رؤيته وهو يمسك بالعصا ومن تعابير وجهه الاستنتاج أنه "سئيل"..

 آه هناك شيء أخر أيضًا كل من في الصورة يرتدي "شحاطة" بإستثناء الصبي السئيل الذي يرتدي حذاءً.

    هذه الصورة أيضًا من تصوير والدي, ألتقطت في مخيم صبرا قبل أيام قليلة على المجزرة.






(5)



الصورة الخامسة لم تعنيني كثيرًا أيضًا, لكنني فكرت هل تقوم المرأة النائمة بتغطية شعرها أم بتغطية عينيها  لتخفف من حدّة الضوء؟





 (6)
















لا شيء مميز في هذه الصورة المحروقة قليلة والتي يبدو أنه التقطت أيضًا في مخيم صبرة وغالبًا عند الظهيرة.






(7)



يقول أبي أن كل الصور التي تجد بها شكلًا هندسيًا فإنها تكون من تصويره وبالتالي فإنني أعتقد أن هذه الصورة أيضًا له. بالمناسبة كم رصاصة أصابت هذا الحائط؟وهل الحيطان المثقوبة كانت بهذه الكثرة حتّى أصبحت ملازمةً لناجي العلي في العديد من كاريكاتوراته؟




هناك فتاة فقدت احدى قدميها, هل فقدتها عندما ثقبت القذيفة الحائط التي تطل منه؟ والصبي الذي يقف إلى جانبها يحمل كلاشينكوف وهو ينظر إليها نظرة إعجاب,

في الخلفية هناك 4 أشخاص: 3 نساء وصبي, المرأة التي تظهر في البعد الأول تقوم بنشر الغسيل وقد تكون أمّ الفتاة, أما الموجودين في الخلف فمن الصعب معرفة ما يقومون به خاصة تلك التي لا يظهر منها غير يدها.





 (8)


هذه الصورة هي الأجمل لكثرة تفاصيلها وللكونتراست القوي فيها وذلك لأنها مصوّرة في عز الظهيرة وذلك يظهر في ظلّ المرأة الموجود تحت قدميها تمامًا.



 هذه المرأة التي تظهر في البعد الأول تحمل بين يديها طفلتها التي ضمّدت قدمها



  ويظهر من خلفها 3 نساء ويبدو أن الاثنتين الواقفتين شقيقتان أو أن تطابق الألوان وقصّة الشعر المتشابهة يعطيان هذا الانطباع.يمكننا أيضًا أن نرى هناك امرأة تقف في الظل داخل المنزل وهي تحمل طفلًا رضيعًا بين يديها وتنظر للكاميرا.




هناك أربعة من قطع الثياب المعلقة مقلّمة.








لدينا أيضًا قناني غاز "مطعوجة" وغالونات مرمية.




لكن أجمل ما في الصورة هي بوسترات الشهداء المعلقة على الحائط, وهم شهداء لحركة أمل كما يظهر إذا نظرنا للبوسترات الثلاثة في الأعلى قد نعتقد للوهلة الأولى أن البوسترين الأوّلين  من الشمال هما لنفس الشهيدين لكن ان دققنا سنجد أن حركة مختلفة بين الشهيدين الموجودتين في البوستر.وأما اذا انتقلنا للبوسترات السفلى سنجد أن الثاني من الشمال هو رسم لأحد الشهداء وقد تمزق قليلًا بفعل الزمن أو الرصاص بينما يظهر في البوستر الرابع صورة لشهيدة تضع حجابًا أبيضًا يظهر قليلًا من مقدّمة شعرها.






 (9)













\





















عندما رأت أمي هذه الصورة كان أوّل شيءٍ قالته: "هيدا مرتضى" في إشارة للصبي الذي يرتدي نظارات ويشبه أخي بشكل ما, دون أن تلتفت للولدين الموضوعين على الحمالة. أنا أيضًا كان هذا الشبه هو أوّل ما لفت نظري خاصة أن حالة الطفلين لا تبدو خطيرةً وان كان النائم في الخلف يبدو مصدوماً.
































في الخلف يوجد رجل يدخن سيغارة وينظر للكاميرا.





 (10)





























حاولت أن أرى ما الذي ينعكس في عينيها لكنني لم أنجح.أشعر أن الدم سيسيل من ذقنها بسبب السلك الشائك.














 (11)





























سأكتفي بما يقوله امرئ القيس في معلقته: تصُدّ وَتُبْدي عن أَسيلٍ وَتَتَّقي بناظرَةٍ من وَحشِ وَجْرَةَ مُطَفِلِ




 (12)














هذه الصورة جميلة جدًا أيضًا, تعابير الوجوه وحركة الأجسام المختلفة بين كل واحدة من النساء الأربعة.













في البداية ظننت أنهن يبكين كمال جنبلاط قبل أن أنتبه أن صورة كمال جنبلاط قديمة وممزقة.























 فقلت بيني وبين نفسي ربما خسرت النجمة مبارةً ضدّ الأنصار, عندما سألت والدي قال أنها التقطت غالبًا في الطريق الجديدة أثناء ترحيل قوات الـ م.ت.ف من بيروت.













هناك بوستر ممزّق في الخلف تظهر منه كلمتيّ "بطولة وفاتن درَزي", أمي قالت أن فاتن درزي ممثّلة كان لها شهرة في ذلك الوقت.





(13)


















ألتقط أبي هذه الصورة في مخيم صبرا قبل أيام قليلةٍ من وقوع المجزرة, وقام بتظهيرها بنفسه ولهذا السبب فإن ألوانها مائلة إلى الصفرة.بعد المجزرة بفترة ليست طويلة كتب مظفر النواب قصيدته عبد الله الإرهابي - أو أن أول مرّة قرأ بها والدي القصيدة كانت بعد المجزرة- التي يقول فيها:

 "وستنهض من بين الأنقاض صنوبرة الحزن


وتغمر صبره بالأفياء

وبساعات خروجك بسلاحك للتنظيف

وتشهد أنك قاتلت الغارات

وقاتلت البحر

وقاتلت طوابير الدبابات

وقاتلت خيانات الدبابات الأخرى

و صمدت صمود الأنواء"

أبي قال لي أنه يعتقد أن الشاعر قد مرّ بالتأكيد أمام هذه الصنوبرة, صنوبرة الحزن.