الاثنين، 17 سبتمبر 2012

وَجهُهُ المُتعَب



"أدر وجهك لليمين قليلًا.
نعم هكذا,نور الشمس على وجهك رائع لو رأه رجلٌ على طائرة في السماء لصوّرك"
******
هناك سيارة تلتهم الطريق وهو يبتلعها.
يغمض عينيه, يشعر بازدياد وهج الشمس تارةً وبخفوته تارةً آخرى,وسرعان ما تترأى له السيارة تتمايل بعنف جراء بقعة زيت كبيرةٍ وسط الطريق قبل أن تصطدم بعامود كهرباء ويموت كل من فيها من عداه لأنه قفز قبل أن تشتعل.
"لماذا كلما تخيلت هذا الحادث, تبقى انت وحدك حيًا ويموت الجميع؟ من أنبئك بذلك؟" يسأل نفسه ويتابع:
"خط العمر طويل في يدك! هل تصدق أمورًأ كهذه حقًا؟"
يفتح عينيه, يريد أن يقول شيئًا لكن لا كلماتٍ تخرج من فمه فيغمض عينيه مجددًا.
"ما بال هذه الكلمات لم تعد تجتمع في جملة؟ منذ متى فقدت القدرة على الكتابة وحكاية أفكاري؟أمنذ قرأت شعر المتنبي وأبو الفراس وشعر الجاهليين العظام وشتمت النظام التعليمي الذي لم يخبرنا عنهم يومًا؟ تشتعل في داخلي رغبةٌ حارقة لكتابة الشعر لكنني لا أقدر على ذلك,هل لأنهم قتلوه و استسهلوه وأصبحنا كلنا شعراء؟ أم لخوفي من "
بناها فأعلى والقنا يقرع القنا وموجُ المنايا حولَها متلاطمُ " و "مهفهفة بيضاء غير مفاضة  ترائبها مصقولة كالسجنجل" من كل هذه البلاغة؟ من أيّ مزراب انسربت يا ترى؟ هل انسربت بسرعةٍ أو ببطء حتى فقدناها؟ ما قاله المتنبي في كلماتٍ تسعٍ نحتاج اليوم لكتاب تاريخ ليحكيه وما قاله امرئ القيس في بيتٍ واحدٍ نحتاج قصيدة كاملة لقوله."

يفتح عينيه مرّة أخرى, فيرى البحر الازرق ممتدٌ أمامه.أزرق, أزرق.
"كزرقة عينيّ ليلى, يا وجه ليلى اظهر لي مرّة أخرى, كما ظهرت من شباك سيارةٍ منذ سنواتٍ ثلاث. يا ليلى ابتسمي لي كما ابتسمت لي شفتاك يومها, شتفتاكِ اللتين قد رأيتهما في كل الشفاه التي قبلتها دون أن أقبلهما.
يا وجه ليلى المتعب اظهر عليّ مرّة أخرى, حل مكانك وجه رجلٌ بلحيةٍ طويلةٍ, رجل برغبةٍ منكرةٍ بحرق كتب الآخرين, كرغبتي بمعاقرةِ الخمر ومضاجعةِ كل نساء الأرض,كرغبة صديقتي بالصراخ معترفةً بخوفها من القمر, كتواطئ العائلة على تصديق أن القريب الذي مات دون أن يصلي يومًا سيدخل الجنة, لأن الله يحبنا ولأن الله يسامح.
إن كان الله يحبنا لماذا يخلقنا  ويجعلنا نكبر و نمرض ويترك أيادينا تتجعد ومن ثمّ يميتنا؟
يومها صرخ المعلم في وجه الصبيّ: "لو لم يكن الله يحبك لخسف الأرض وغطّى جسدك بالركام"  وأجاب معلم آخر بعد سنين عدّة بـ"أن الانسان تجاوز أسئلة كهذه التي لا اجابة لها.
ليتني أقابل الله لأسأله,
ليتني أضبطه بيننا متخفيًا كعاشقة عائدةٍ عند الفجر لأسئله لما خلقتنا؟
لأقول له أريد أن أكون نبيًا يا الله ورجلًا لا يموت.
سيمر وسيكون جميلًا كالأيقونات الكنسية
سأخبره عن أنبياءه اللذين خلقوا بلا نبوة
سيمر الله
لأسئله لما خلقته خاتمًا للنبوة
ألا نستحق أن أكون نبيًا أيضًا؟
لما خلقته خاتمًا للنبوة؟ وتركتنا لخواء الصحراء؟
ألسنا بحاجةٍ لحواريين ولأئمةٍ وصحابة؟
سأقتله وأصير إلهاً مكانه.يقول فيلسوف نصف مجنون, لطالما تخيل الله يحاول النوم في النهار ومستفيقًا في المساء محدقًا من عليائه بالكرة الزرقاء متسائلًا:"هل أنا من خلقت هذا الشيء؟"
ويفكر:"هل مات الله من اعياءه وقلّة نومه فأخلفه عندها دون الحاجة لقتله؟"

نور الشمس لا يزال يقوى ويخفت, يشعر به على عينيه المغمضتين.
"من أين أتت كل هذه الكلمات وملأت الصفحة البيضاء؟ وأنت تقول ما بال الكلمات لا تأتي؟ أهو الخوف من تيهٍ منتظر ما جعلها تتدفق هكذا؟ يا روحي الحمقاء المليئة بالتعب ألا تقدرين أن تتكلمي دون تشبيهاتك الكثيرة هذه؟ أن تنسي حرف الكاف والتشابيه الزائفة؟ أن تتكلمي كروح أي رجلٍ في مقهى شعبي أو امرأةٍ في سوق قديم"
-"هيا انزل من السيارة, لقد وصلنا"
***************
"كان المكان جميلًا جدًا, كأنه قد خرج من كتاب الله أو من الأحاديث النبوية.
كل شيءٍ أخضر أخضر تخترق تلاله وسهوله خطوط زرقاء كثيرة تلتقي عند منبع النهر
وكنا جميعًا هناك وقال البعض أن الله كان معنا كذلك, كنا جميعًا بهيئاتنا وملابسنا البشرية نفوق المكان جمالًا.
اقترب مني رجل عجوز وقال: "هذه ليلى" وتنحى جانبًا. لتظهر ليلى بوجهها الخدر وعينيها الزرقاوين الناعستين, وكنت أعرفها كما يعرف عصفور غدير ماءه.
وفجأة سمعنا أصوات صاخبةً قادمةً من بعيد, ثم امتلأت السماء بالطائرات."

الخميس، 6 سبتمبر 2012

كانون الصيّفي (بقايا كافكا)


حباتُ العرق تتجمع على صدغيّ الأيمن وتتسلّل ببطئٍ إلى باقي الوجه ومن ثم تغمر الجسد.
هل هذا كانون حقًا؟

المروحة تدور منذ الصباح بالحركة البليدة الثابتة نفسها دون تغير بينما تجتاح جسدي رغبةُ غامضةٌ للنوم رغم ساعات الليل العشر,عيناي شبه مفتوحتين,شبه مغمضتين على أسفل صفحة في كتاب يقول الرجل فيها أنه سينفض يده من بوذا وسيحرر عقله من القلق الزائف وسيتصل بالناس اتصالًا وثيقًا مباشرًا.وأحاول أن أعرف لماذا قرر الرجل ذلك,لا عيناي ترتفعان إلى أعلى الصفحة ولا ذاكرتي تسعفني بتذكر ما قد قرأته وأذهب بعيدًا وأرى الكلمات تهجم عليّ من جميع الجهات دون أن أحاول الهرب قبل أن تعيدني المروحة التي تدور وتدور وتوقظني بصوتها.أتلمس شفتيّ اللتين قد بدأتا بالتحول لقطعةٍ من منحوتةٍ اغريقية,أهرع للمطبخ وأشرب كوبًا,كوبين وثلاثة والظمأ يزداد كأن نبتةً نمت في أسفل حلقي تمتص جذورها كل ما أشربه.
أي حرٍّ هذا وأي كانونٍ هذا؟
سأخرج للشرفة علّ هواء المدينة هواء كانون.ها أنا خرجت وأخذت أنصت السمع لوقع أقدام طفلٍ يركض في الشارع فرحًا, ووقع أقدامه واضحٌ رغم أبواق السيارات.الحر هنا أشد من الحر في الداخل. أخرجُ جسدي من الشرفة أكثر وأطلّ برأسي محدقًا في شبابيك البناء المجاور,هل خرجت إلى هنا طمعًا بهواءٍ باردٍ حقًا أم لاشتعال رغبتي مجددًا بعد أن ماتت منذ زمنٍ بعيد؟فخرجت طمعًا برؤية فتاةٍ تتعرى قبالة شباكها أو امراةً متزوجةً تقبل عشيقها وينعكس جسديهما على زجاج النافذة.وبدأت دون أشعر بالصراخ عاليًا لا أعرف ماذا أقول منتظرًا أن تخرج الناس أفواجًا ملوحةً بقبضاتها في الهواء وهي تصرخ وتحملني على أكتافها لأقودها وأصرخ أكثر وأكثر.لكن لا شيء يحصل أيضًا,فلا طيب فمٍ خالصًا للتقبيل يظهر ولا سيفًا خالصًا للثورة.
أشياءٌ كثيرةٌ تجتاحني اليوم.كافكا يجتاحني بينما لا أزال واقفًا على الشرفة,أفكر فيه وبوالده:هل والده هو والدي ؟ أم هو أنا؟ قبل أن يظهر والدي قادمًا من رأس الشارع ومن خلفه شرطيٌ يحدق في شرفات الأبنية كلها. هل أحضره أبي ليلقي القبض علي بعد أن سمع صراخي؟
أرتدي حذاءي بسرعةٍ وأهرب من المنزل بسرعة. أصعد في سيارة أجرةٍ حمراء متهالكة.يسألني السائق إلى اين أريد الذهاب فأطلب منه الاسراع قليلًا والابتعاد عن هذا الشارع وأبدأ بالتحديق في الأبنية, وأسأل "من هذا الذي كان يصرخ؟" وأمعن النظر أكثر في الشرفات.
يكرر السائق سؤاله,أنظر في عينيه بصمتٍ وأربت على كتفه المهترئ وأضحك وأقول "لنذهب إلى منزل صديقي الذي لم أره منذ زمنٍ بعيد لعله يبقيني عنده ليثما يهدأ والدي."
فيبتسم الرجل العجوز ويواصل القيادة ونبتعد عن الشارع ببطءٍ قليلًا قليلًا ويخفّ خوفي قليلًا قليلًا قبل أن ندخل في شارع تملأه السيارات والزحمة وأناس كثيرون عائدون للتو من المقبرة المجاورة بعد أن طمروا جسدًا آخر تحت التراب. فيعود القلق إليّ وأتحسس ثيابي التي أضحت مبللةً بالكامل وشفتيّ اللتين أضحتا حقًا قطعة من منحوتةٍ اغريقية وزجاج النافذة اللذي ألهبته الشمس اللتي ازدادت قوة.
الناس يحدقون فيّ بشكل غريب والسيارات لا تزال واقفة دون حراك.السائق يطلق العنان لبوق سيارته ويبدأ بالصياح وبالتشاجر مع سائق مجاور بينما يزداد بلل جسدي وتحجر شفتيّ.
صوت سيارة اسعاف آتٍ من بعيد يقترب شيئًا فشيئًا.هل مات شخصٌ آخر الآن؟
أسفل حلقي يتضخم,انها النبتة التي تمتص كل ما أشربه,انها تكبر فيه وتتمدد.غصنٌ النبتة يخرج من فمي فأقضمه محاولًا التخلص منه بينما يقترب صوت سيارة الاسعاف أكثر ويخرج غصنٌ آخر من فمي وأحاول أن أقضمه دون أن أنجح.
صوت سيارة الاسعاف يملأ أذني وأغصانُ النبتة وعروقها تبدأ بالخروج بكثافةٍ من فمي وتغطي وجهي وجسدي,تخرج منها حشراتٌ صغيرة تأخذ بنهش جسدي.
زحمة المرور تنفك والسيارات تبدأ بالسير من جديد, وصوت السائق يتداخل مع صوت سيارة الاسعاف وهو يعلو ضاحكًا بشماتة.