الثلاثاء، 1 أكتوبر 2013

فتاة الدائرة

إلى ذلك المربع أتت راكضة, سقطت بالقرب منه, نهضت واقتربت, وببطئٍ شديد ضمته, لثوانٍ عدّة. قبل أن تنظر في عينيه بخوف. وبخوف أيضًا أفلتته واستدارت راكضة, وبينما كانت تركض, كانت تصغر وتصغر لتعود طفلةً صغيرة تركض في خطٍ دائري.

اسمه قيس, ويظن أنه ورث القليل من جدّيه امرئ القيس وقيس بن الملوح. عمره 25 عامًا وما زال محافظًا على عذريته كأي فتاةٍ عفيفة من عائلة محافظة.

"إنتَ بتنام مع الكتب والدواوين.
...وكاسيتات أم كلتوم كمان."

فتح قيس عينيه, دخل الحمام, لبس ثيابه, شرب القهوة من الركوة الصغيرة التي يعدها بنفسه كل صباحٍ في مطبخه الصغير, وخرج من منزله المؤلف من غرفتين.

"السما معبقة كأنها بدا تشتي ومش عم تقدر.
سماع هلأ, كانت عم تركض ووجها عم يتغير كتير ويمكن كانت عم تكبر, ولما وقعت حدي, قربت ايدها بس أنا ما عطيتها ايدي. قامت وكانت متل ما هيي هلأ. قربت مني وعبطتني, وعبطتها. مش كتير, فلتتني وطلعت فيي كأنها خيفانة, أو كأني كشفتها, كشّفتها, ما بعرف. بلشت تركض بس خلص كانت عم تصغر وتصغر هيي وعم تركض كأنو ع خط دائرة واختفيت ورا الحيط.. عرفت كيف كأنو بس خليتها تحب, كسّرتلها الصورة اللي عامليتا و..."
"دخيل الله شو بتفلسف وبتتفلسف.."

اسمه قيس, وكل عامٍ أو عامين يتسجل في كلية مختلفة لا طمعًا بتحصيل معارف كثيرة بل ليحافظ على المال الذي يحصل عليه من المعاش التقاعدي لوالده المتوفى من الدولة.

"وبس يصير عمرك 28 ويبطلو يدفعولك؟
..."

لم يؤمن بجدوى العمل, أيّ عمل. حتى الكتابة. "اسّا ما بيبقاش شاه" يردد العبارة باللهجة نفسها التي يقولها جارهم الجنوبي الذي فقد بيته وعائلته في اجتياح 82, كلما حاول أحد دفعه للعمل.

"ليش بتكتب طيب؟"
"مين قال؟"
"شفت الدفتر هيديك اليوم, اللونو أخضر."
"آه, هيدا مش الي, لقيتو ع التَتْخيتة عنا بالضيعة. كان لبيّي"
"ما بو شي أبوك, بيكتب منيح"

لم يُري أحدًا ما يكتبه, لا عندما كان يكتب يوميًا ولا اليوم عندما أصبح يكتب بشكل متقطع. يكتب ويسخر من ما يكتبه, دون أن يمزّق شيئًا: تراوده رؤية بأنه سيأتي بالقليل من ما آتى به جدّاه: امرئ القيس وابن الملوّح.

"بس تشوفها لحالك بتقول: ترائبها مصقولة كالسجنجل
نمت معها ليه؟
لأ..
ايه كيف شفت أنو كالسجنجل؟ انتَ شايف بنت مزلطة أصلًا لتعرف المصقول من المش مصقول؟
بعين القلب رأيت, ويضحك
قلبت صوفي مبيّن؟"

حسام هو الذي قرأ في الدفتر الأخضر. وهو الوحيد الذي زاره في منزله المكون من غرفتين, لأن الانتقال من غرفة إلى آخرى كالانتقال من عالم الى آخر كما كان يقول. سمح له بذلك لأنه يشبهه.

"أنا بشبهك؟ أنا نايم مع نسوان ع قد ما انتَ حاكي عن نسوان"
"..."

كانت يعرف أن حسام يشبهه وأنه يعرف أنه يشبهه: يعمل في تجليد وتلصيق الكتب العتيقة ليتمكن من دفع اجار غرفته فقط. لأنه مثله لا يؤمن بجدوى العمل, أيّ عمل. حتى الكتابة. ومع ذلك كان يكتب, يكتب ويمزّق ولا يُري أحدًا. لكن قيس كان يعرف بعين القلب كما يردد ويضحك.

"انتَ حتكتب رواية
قلتلك من شويّ, أنا ما بكتب..
بكرا رح تنشرها كمان
بعين القلب عرفتها هيدي كمان يا حلاج؟
ايه بعين القلب, يا تولستوي." ويضحك.

لم يصدقه حسام, وهو لم يكن يصدق نفسه. يخترع الحكايا والرؤى وفي المرات القليلة التي كان يرى فيها بعين القلب حقًّا, لم يتحقق شيء من رؤاه هذه: أيلول الذي سيموت فيه أحد يحبه مرّ, والصديق الذي سيهاجر بقي يعيش في قريته, وعمله الذي سيفخر به جدّاه لم يتحقق لأنه لا يكتب الشعر أصلًا. حتى رؤياه عن الفتاة في الحلم لن تتحقق.

"دايمًا بتقول امرئ القيس قبل مجنون ليلى حتّى و..
اسمه قيس بن الملوّح مش مجنون..
مش مهم الاسم, المهم الفعل, حبيبي امرئ القيس كان ملك وشاعر وسكّير ونص نبي, انتَ حتى قيس العاشق المعتر ما بتشبهوا: بتحكي, حكي ومش شعر,وكل يوم بتحب بنت شكل. لا ملك ولا سكّير و"نبؤاتك" ما بصير منها شي, ربع نبي ما بتطلع."

لمى صديقته التي تكبره بعدة سنوات فاتها سنّ الزواج - كما تقول- وتحبّه..تغويه فيبتعد ويكتفي بالابتسام حين تقسو عليه بالكلام, يبتسم بمرارة ربما لكنه يكتفي بالابتسام ويمضي.

"انتَ بتنام مع الكتب والدواوين
(وبسكر فيهن, أراد أن يقول لكنه تذكر أم كلتوم)
..ومع كاسيتات أم كلتوم"

اسمه قيس, هو دودة كتب لكن عندما كان الأمر يتعلق بالجامعة فإنه يعجز عن اكمال صفحتين. حتى عندما تسجل بقسم الأدب العربي, كان يبدأ بمطلع معلقة جدّه "قفا نبكي من.." ويشعر بالاختناق. يرمي المقرر الجامعي ويأتي بكتابه الضخم فتسيل الكلمات على عينيه وجسده وتختلط الأبيات بالأبيات والأوزان بالأوزان ويسكر باللّغة.
ابتعد عنها, والسماء الغائمة المحتبسة سالت أمطارها بغزارة.

"امشي طلاع لعندي.. لوين رايح بهالشتا؟ بشربك نبيت تاع, مش ضايق النبيت انتَ لأنك مش سكّير متل امرئ القيس, النبيت بدفي.."

غاب الصوت عنه وواصل مشيه مبتعدًا. يريد أن يرى حسام رغم أنهما كانا سويةً هذا الصباح. الهواء البارد يصفع وجهه فيشعر بجلده يتشقق وبحبال المطر تقبض عليه.

"بحب الكتابة الذهنية, بتضل تغير الكلمة لتلاقي الكلمة اللي بدك ياها متل الشعر. بتحط الفواصل والنقط, بتاخد نفس انتَ وعم تقرا وبتكفي. هون نقطة, بتسكت. بترجع بتبلش فقرة جديدة."

دخل إلى البناء العتيق الذي يسكن فيه حسام, فخفّ البرد, نفخ في يديه وبدأ بصعود الدرجات ثلاثة, ثلاثة.
قرع الجرس وانتظر. لم يسمع وقع أقدامٍ يقترب.. دق الباب الخشبي فلم يفتح أحد. جلس على الدرج ليرتاح قليلًا لكن رجلين صاعدين يحملان كنبة أجبراه على الوقوف ليمرّا. انتبه الى أنه مرّ بـ بيك آب قرب المدخل, يبدو أن سكانًا جددًا سينتقلون الى البناء. يقرع الجرس ويدق الباب في الآن نفسه لكنه لا يسمع سوى ارتطام حبّات المطر بشباك الدرج.كما صعد نزل ثلاث درجات في كل خطوة, ووقف في المدخل مقرّرًا انتظار حسام فربما كان نائمًا أو في الدكان. أخذ يراقب العمال في صعودهم وهبوطهم, مستمعًا لوقع خطواتهم ولسقوط المطر على أكياس النايلون التي تغطي الأغراض.

عندما شارف العمال على الانتهاء من نقل الأغراض التي لم تكن كثيرة, فكّر أن السكان الجدد لا بدّ أن يكونوا طلّابًا أو طالبًا وقرر الصعود من جديد ليدقّ على حسام. وبينما كان يستدير ليصعد سمع وقع أقدامٍ سريعًا على الدرج ورأى فتاة الجامعة, فتاة الحلم نفسها تتعثر لتسقط على الأرض أمامه في المدخل المربّع. وقف مدهوشًا للحظات في الفتاة التي تأنّ ألمًا. اقترب منها, أمسك بيدها وساعدها على الوقوف بينما مدّ يده الثانية ليمسح الوحل الذي ملأ الأرضية من أحذية العمال عن وجهها, وأحس بالكبرياء يغدو على وجهها كرياتٍ من الدموع وباليدين الصغيرتين محاولتين تطويقه في عناق. مرّ بيده على الوجه بسرعة وركض إلى الخارج وفي كل خطوة كان يحس بأنه يكبر ويكبر, يتناهى الى مسامعه ضحك جدّه امرئ القيس وبكاء جدّه قيس بن الملوح.
.
.
.
فكّر قيس وهو مبتلّ تمامًا, مصابٌ بالزكام والعطاس يخلع حنكه: " أليس الجانب الأمتع من الحياة هو تلفيق حكايات ممتعة والاستماع إلى حكاياتٍ ممتعة؟
...ماذا عن عيشها؟ "