السبت، 18 مايو 2013

عن الشخص في تجيّفه


في أيام التجيّف الكثيرة, الطويلة المتواصلة. يجلس وحيدًا ويعيد سماع أغاني أم كلثوم, منذ أن مات القصبجي عشقًا في رق الحبيب حتى النهاية مع سيد مكاوي. مفكّرًا بكم كان اسكندر خفيفًا حين صدّق في البداية أن الكتابة هي الطريق إلى الآلوهة, وبأن يوسف الذي استحوذ عليه -وما زال- كان أشدّ خفةً حين قدّس الكتابة مستبدلًا بها الصلاة فسقط بعد موته بقليل في غياهب النسيان.

في أيام تجيّفه الكثيرة, الطويلة المتواصلة, يجلس وحيدًا معيدًا سماع أغاني أم كلثوم, مقلّبًا الصور القديمة وصفحات الروايات الكبيرة, ليشعر باللانهاية والامتداد وبأن شيئًا/ شخصًا, مهما كان/ أيًا كان قابلٌ لخلودٍ ما ولو مؤقت.


يخفض صوت المسجل قليلًا, 
ويفكّر أنه يحن إلى التسعينات: إلى المسجل والبطاريات الكبيرة التي تصدأ في الجارور سريعًا وللمشي على البحر في السادسة صباحًا أيام الجمعة -يوم عطلته مع والده. ثم يسأل نفسه ان كان الصدء هو سبب ظهور صورة البحر بمياهه المالحة في رأسه بعد صورة البطاريات, أم أن صورة البحر والبطاريات انبعثتا من صوت فيروز الذي كان ينبعث من السيارة كل صباح كما كان ينبعث مع طلوع الشمس من باصٍ متوقف لبيع القهوة قرب البحر. ينتبه إلى أنه كان يكلّم نفسه عن الحنين إلى التسعينات قبل أن يختلط الأخير, بالتساؤل عن سر تداعيات الصور. فيطرد الأخيرة ويتذكر صوت فيروز في السيارة صباحًا والشبابيك الخشبية للقدس, التي لا تختلف عن الشبابيك الخشبية في بيروت ويحن إلى القرية ورائحة الشاي الدائم الغليان وعرق الجدّة بعد يوم أنهكها فيه الأطفال, ويحن إلى رائحة التراب والدم المتخثر والطبقة الخشنة التي تعلو الركب بعد تشققها أثناء لعب الكرة, ويحن إلى لعب الكرة و تمزقها ولجمع الأطفال للقطع المعدنية لشراء بديلٍ عنها ولسخرية الكبار من عبثية فعل الأولاد.

يشعر بغياب الصوت وعدم احساسه به, فيرفع الصوت قليلًا.
ثم يشتم بصوتٍ منخفضٍ فتاةً شقراءً صاخبةً عرفها في الجامعة, عابت عليه يومًا تجيفه وعاب هو عليها اندفاعها الأخرق في الحياة. يطرد صورتها من رأسه وينظر إلى خيط من ضوء المغيب يخترق يده آتٍ على الغرفة مارًا على الأرض والحائط خلفه.
قبل أن يشعر بالضيقٍ ويفكّر أنه يخون تجيّفه بحديثه مع نفسه وانخراطه بالذكريات, ذلك أن التجيّف كان خياره منذ البداية,حيث سمح له أن يتغلغل في مسامه بصمتٍ وبطئ.
 لكن الصور اليوم تنهمر عليه بكثافة لم يعهدها قبلًا مربكةً اياه. فيفكّر بالرأي الأخرق القديم نفسه, بأن الخلاص يكمن في إيجاد وسائل إلهاء كما قالت صديقته يومًا, وتذكر أن رجلًا بلا امرأة, جثة تبحث عن قبر, وبأن فتاةً/ امرأةً قد تنفخ في الجيفة روحًا:
"الفتاة ذات الشعر الأسود بعينيها الكبيرتين, الجميلتين. بسلواها عن الأحلام الكبيرة والقضايا والآلهة والكتابة والخلود, وبراءة الاكتشافات الأولى المتجدّدة في عينيها كل لحظة , وفرحها بالأشياء الصغيرة وفرحِ الأخرين."
يبتسم حين يفكّر فيها, ويتساؤل عن جدوى التفكير في الخلود ان كان يحبها؟ وعن ردّة فعلها ان علمت أنه يحبها؟ هل يحبّها أصلًا؟

يرفع بحركةٍ آليةٍ صوت المسجل أكثر إذ أنّ الصوت يكاد لا يسمع,
فتعلو منه أغنية لم يسمعها قبلًا لأم كلثوم: " وأخاف أقول الحب أهو بان أحسن يا روحي تجافيني" ويشعر عندها بوخزة خفيفةٍ في صدره ويبتسم ابتسامة حقيقيةً وصادقةً هذه المرّة, حقيقيةً وصادقة بما يكفي لتخرج ما في داخله من حبّ, هل حقًا يخاف أن تجافيه الفتاة إن صارحها بما في قلبه؟
 
يطرد السؤال من رأسه فهو يعلم أن هذه ليست إلّا وسائل إغواء لينسى, إلهاء - كما قالت صديقته- لتمرير الوقت متجاهلين وطئة الزمن ومتناسين النهاية المكتوبة.
طيّب ليكن الهاءً واعيًا, يقول قبل أن يبتسم ساخرًا من نفسه. كيف لإلهاءٍ أن يبقيه واعيًا؟

يرفع صوت المسجل إلى أقصاه لكن لا صوتًا ينبعث منه,

 ينتظر قليلًا ثم ييأس فيقلب الشريط. ينبعث الصوت قويًا هذه المرّة, أم كلثوم تملأ بكثافتها المعهودة فضاء الغرفة, دون مقدّمة موسيقية:
"أغدًا ألقاك يا خوف فؤادي من غدي, يا لشوقي واحتراقي في انتظار الموعِدِ".
يهمس هو مبتسمًا بصوتٍ خافتٍ لا يسمع
:" أيّها النوم، يا سيّد العطايا أنت، لماذا تطلّ و تذهب كالقمر؟ أيّها النوم لماذا لست كالحجر، كالسنديانة ، دائماً قاعداً لا تذهب و لا تختبىء؟ وحدك الانقاذ أنت، لا الكتابة و لا الحب."

الاثنين، 6 مايو 2013

وكأن شيئًا لم يكن...

  صورة الشهيد -الذي أحمل اسمه- على المدخل الشمالي للقرية حيث توجد بضعة أشجار حورٍ وتلال لم تطئها قدمٌ منذ أن مرّ بها المسيح في طريقه لقانا الجليل, أكلها الصدئ والمطر العتيق شيئًا فشيئًا بشكل عامودي من الجبهة حتى آخر الفم, لم يبقى منها سوى شبه عينين.

منذ فترة بعيدة نزعت هذه الصورة الحديدية أو ربما حولها صاروخٌ اسرائيلي إلى سراب فاستبدلت بصورة من النيون مستطيلة في ساحة القرية يتوسطها الشهيد الذي أحمل اسمه, عن يمينه مفجّر مقر الحاكم العسكري في صور:"الاستشهادي الأول في الجنوب" وعن يساره من قيل أنه مفجّر مقر المارينز في بيروت.

...عندما مررت بالصورة الأولى وأنا صغير انتابني احساس يملأ الروح بالحزن وبوطئة الزمن والنسيان. عندما مررت البارحة أمام الصورة الجديدة انتابني الحنين الى الصورة القديمة وتفاعلاتها مع عناصر الطبيعة والحزن لتجاهل بقية الشهداء.
****
يتساءل ميلان كونديرا في "كائن لا تحتمل خفّته" عن أثر حرب في القرن الرابع عشر بين مملكتين أفريقيتين قتل خلالها 30000 زنجي على مجرى التاريخ؟

يقول محمود درويش في "جدارية":" وكأن شيئًا لم يكن/ جرحٌ طفيف في ذراع الحاضر العبثي/ والتاريخ
يسخر من ضحاياه/ ومن أبطاله/ يلقي عليهم نظرة ويمر."

يتحدث يوسف حبشي الأشقر عن "ضد البطل/ بطل" ثلاثيته الروائية اسكندر فيقول:
"ربما, ربما!... ما لم يقله أبوه يعرفه هو, عزلته بالأصل نظرة إلى الحياة كنظام موقت وعمره لم يعن له الموقت شيئًا (1). لكن الكتابة, الكتابة كانت بالنسبة إليه الطريقة الوحيدة للشعور بالقوة, حلم القوة, السطوة, القدرة, القدرة على أن يكون الله.(2)"
يقول اسكندر: " أنا الانسان - الاله هكذا صوّرت ذاتي بعد أن قتلت الاله- الاله.شئت دائمًا أن أكون بائع سعادة غير كاذب أي ليس كالإله الذي قتلته لأنه كان بائع سعادةٍ كاذبًا أو كثير الوعود أو كثير الكلام..فزينت صورتي من الداخل والخارج بخصال الله التي لطالما رجوتها, ثم عرفت أني عاجزٌ أن أكون بمستوى الصورة ومستواها هو حقيقتي الوحيدة ونبع تصرفي الوحيد.
كنت كلما واجهت عجزي قلت ان الخلاص ليس أبديًا وأنه لكل وقت اله وكنت أقبل بالجواب دون رضاء, حتّى انتهيت الى التخلي عن دوري وتبيّن لي أني أتخلى عن ذاتي وبهذه الحالة ما صار معناي؟ ما معنى ذلك؟ معناه أن لا معنى لي.(3)"

ربما إذن الاستسلام لـ"كأن شيئًا لم يكن..."


***************************************

أنا لا أحبُّ عبد الناصر.

أنا لا أحبّ عبد الناصر, هناك أسباب كثيرة لكي لا أحبه: كونه عسكريًا, وكونه تألّه من شعبه, وكونه ديكتاتورًا ولو بنوايا طيبة.. أو أن السبب هو خليط من هذه العناصر الثلاثة: العسكري الذي وصل بالانقلاب الى سدّة الحكم وأضحى مخلّصًا للأمة وديكتاتورًا يحبّه الملايين من المحيط الى الخليج مسبّبًا هو وغيره من العسكر الذين حكموا من تونس الى سوريا الوضع الذي وصلنا اليه اليوم نتيجة القمع والكلام الكثير والجيوش الورقية وخيبات الأمل..

لا أحب عبد الناصر لأنه كأي ديكتاتور آخر مات ومات كل شيء معه, أحلام جيل بأسره, أحلام شعبٍ بأسره, أحلام أمّة بأسرها..
.....
في فيلم الزمن الباقي لإيليا سليمان يصوّر ابن الناصرة أثر وفاة عبد الناصر على أبناء مدينته... هل هناك احساس بالخذلان والوحدة وانتفاء الأمل أكثر من هذا؟



.....
يقول أبي أنه يذكر حين كانوا صغارًا في الكويت كيف كان يجلس الكبار في المساء للاستماع للراديو, وكيف أنه في المساء الذي أعلن فيه راديو القاهرة وفاة القائد جمال عبد الناصر, هرب عمه من المنزل بعد شجار طويل مع الاخوة والزوجة والاولاد للالتحاق بفدائيي الـ م.ت.ف
.....
يقول صديقي "الجديد" الذي تزيد كثافة شعره من كبر حجم رأسه في احدى جلسات التداعيات المتزايدة بيننا في الفترة الأخيرة, أن جدّته أخبرته أن في كل قريةٍ من قرى البلاد أقيمت جنازة لجمال عبد الناصر بنعشٍ واكاليل ورود ومسيراتٍ وصلاة ميتٍ حتّى, وأخبرته أيضًا بأنها سمت والده جمال على اسمه.


*****

(1): الظل والصدى, يوسف حبشي الأشقر (ص 468)
(2): لا تنبت جذور في السماء, يوسف حبشي الأشقر (ص 234)
(3): الظل والصدى, يوسف حبشي الأشقر (ص42)