الأربعاء، 19 فبراير 2014

ثلاثة افتتانات عابرة بالسينما

ملاحظة: إن الذكريات المروية أدناه، هي ذكرياتٌ حقيقية، قام الكاتب بصياغتها فقط.

I

تفكّر: لو أن زوجها الحاج يستجيب لمحاولتها إقناعه بترك حفيدتها زينب تذهب للسينما، فإنّها ستود أن تذهب معها.
"...
أتذكر الآن كيف أضعت، قبل خمسين عاماً، الفرصة الوحيدة التي سنحت لي لمشاهدة فيلم في صالة السينما. أنهينا باكراً عصر ذلك الأحد، أنا وشقيقتي سعاد، درس الخياطة عند جارتنا ليلى التي دعتنا إلى مرافقتها للسينما. حاولت إقناع أختي الكبيرة، التي بدأت بالتدخين سراً قبل فترة قصيرة، بعدم الذهاب. أمي ستغضب كثيرًا إن تأخرنا في العودة للمنزل إلى ما بعد الغروب، وستغضب أكثر إن عرفت أننا ذهبنا إلى السينما. لكنها كانت متحمّسةً جداً، وقالت إن الفيلم سينتهي باكراً. أما أنا فقد خفت، وفضّلت العودة إلى المنزل وحدي. حصل يومها ما توقّعته، وامتد الفيلم لأكثر من ساعتين. وعندما عادت شقيقتي كان الظلام قد حلّ. صفعتها والدتي قبل أن تسألها أين كانت، وحرمتها من متابعة دروس الخياطة. لكنها لم تبالِ، وبقيت تتحدّث عن الرحلة التي امتدت من الأسعد في الشياح إلى سينما الأوريون في المشرفية، لفترة طويلة، حتى انطبعت الحكاية في ذاكرتي، كأنّني رافقتها: رائحة الزفت "المفلوش" في الشارع حديثاً، والممتزج برائحة شجر الصنوبر الممتد على طول الطريق. قاطع التذاكر العجوز الذي يغمز بعينه كل فتاةٍ تمر أمامه، مغازلاً إياها بكلمات غير مسموعة. الضوء الصغير الذي يخترق الصالة من أولها إلى آخرها، جاعلًا وجه محمد عبد الوهاب الجامد، والذي لم أرَه إلا على غلاف اسطوانة، يملأ الشاشة الكبيرة البيضاء. الشبّانُ الجالسون على الدرج المؤدّي إلى السينما، والذين "يلطّشون" بكلماتهم النساء القليلات الموجودات في الصالة".
تفكّر الآن: لو أنها رافقت سعاد، لما كلفها الأمر أكثر من "كفّ" واحد، والتوقف عن دروس خياطةٍ لم تكملها، بسبب زواجها بعد تلك الحادثة بشهر، وذهابها مع زوجها إلى قريتهما البقاعية.

II

يفكّر: لو أنّ كاميرا تسجل ما يقوم به في سجنه هذا، لكان أرسل ما تصوّره إلى والديه، وإلى ابنته زينب في بيروت، كما كان يفعل بالأفلام التي كان يسجّلها مع صديقه عماد في الماضي.
"
أتذكّر الآن أن الأفلام التي أحببتها أقل وملأتني أكثر كانت الأفلام الرديئة الصورة على تلفزيون مختار القرية. حيث تغيب الصورة ووجوه الممثلين في الظلال وتصبح أصواتهم غريبة، وبعيدة. كما لو أنني في حلم. تلك الأفلام، التي لم يبقَ منها في رأسي سوى صور باهتة، وحكاية ضبابية متقطّعة الأحداث، متناثرة، لا أذكر منها سوى إحساسي بضوء الشمس على وجه المرأة، وملمس الخشب العتيق لأبواب المدينة، وربما سخونة الدم على يديّ حين قتل أخٌ أخاه على الشاشة أمامي. "كما لو أنني في حلم"، أقول لنفسي، وأتذكّر طعم القبلة على شفتي المرأة التي رأيتها في المنام. أقول القبلة، وأزمّ شفتاي وأقربهما إلى الأمام. وأنتبه لنفسي أزمّهما، فأبدأ بتكرار الحركة مردّداً: "القبلة، القبلة...". كنت قد خرجت لتوّي من المنزل، عندما رأيتها هي نفسها، المرأة في الشارع أمامي. اقتربت منها، وقلت لها بفرنسيتي المتلعثمة أنني قد حلمت بها هذه الليلة تحديداً. لم تغضب ولم تنزعج. اكتفت بالابتسام فقط. تشجّعت وسألتها إن كانت تود الجلوس في مكانٍ ما. فقالت إنها ذاهبة للسينماتك القريب، وإنني أستطيع مرافقتها إن رغبت، فوافقت مباشرةً. عندما وصلنا إلى شباك التذاكر في السينماتك، ركض رجلٌ بسرعة ناحيتها. أطلق النار عليها وهرب. أحسست عندها بسخونة الدم على يدي حقّاً. جلست بقربها عاجزًا عن الحركة. لاحقاً أتت الشرطة، ورموني في السجن لانتهاء صلاحية أوراقي".
يفكّر: إنّها المرّة الأولى التي ينتبه فيها أنه رغم الأفلام الكثيرة التي شاهدها في المنزل، لم يكن قد ذهب إلى صالة السينما يومًا. بسبب بُعدها عن مسكنه ربما، وبسبب كلفتها العالية بالنسبة إليه. وأن السينما لم تصبح في متناوله إلا بعد سفره إلى فرنسا، حيث كلّفه دخولها في المرّة الأولى دخول السجن.

III


تفكّر: لو بقي جدها على قراره الرافض ذهابها للسينما، فإنّ ذلك أفضل من أن يوافق شرط مرافقة جدّتها لها، كما يفعل دائماً.
"
أتذكّر الآن ذلك اليوم حين أتى عماد من فرنسا، وأحضر لي معه مشغّل أقراص "دي.في.دي"، هديةً من أبي. ذلك اليوم تحوّل إلى عيدٍ حقيقي، لي ولسحر، التي كانت مدعوّة للنوم عندي. "لا حاجة بعد اليوم لأشرطة الـ"في.أتش.أس" الغالية الثمن، ذات الجودة المنخفضة. أهلاّ بأقراص الـ"دي.في.دي" المقرصنة، ذات السعر الزهيد والجودة العالية". قالت سحر بنبرة إذاعية. ليلتها، وبدل أن نشاهد الأفلام على الجهاز الجديد، جلسنا نتخيّل كميّة الأفلام التي سيتسنى لنا مشاهدتها من الآن فصاعداً، معدّدين أسماء أفلام الكرتون الكثيرة التي سنشتريها. بقينا نتحدّث حتى الفجر، إلى أن بدأ صوت القرآن يعلو من المسجد القريب. وصّلنا عندها الجهاز بالتلفاز، وشغلنا فيلماً اسمه "ألدورادو".
بعد دقائق قليلة كنا قد غفونا.
ومن أول ليلة جمعة تلت ذلك النهار، بدأنا بدعوة صديقاتنا في الصف لعروض أفلام الكرتون في منزلي. لكن مع تقدمنا في العمر، بدأ عدد من يقبلن دعواتنا يقلّ، لأنني بدأت مع سحر بشراء كل ما تقع أيدينا عليه من أفلام، حتّى تلك التي تحوي مشاهد جنسية أو للكبار فقط، مما أبعد بقية الفتيات عنّا. لنعود في النهاية وحيدتين كما كنا في البداية.
استمر الوضع هكذا إلى أن أتى جدّاي بعد انقطاع أخبار والدي ورحيل أمي. وقتها بدأ مصروفي يقل، ومعه عدد الأفلام التي نشتريها. وحين دعاني حسام للسينما قبل أسبوع. غضبت سحر كثيراً، وسخرت منه أمام الصف. لكنها غضبت أكثر عندما قبلتُ دعوته، وتوقفت عن محادثتي".
تفكّر الآن أن جدّها أحمق، لاعتقاده أن السينما هي سبب دخول والدها إلى السجن، مؤكّدةً لنفسها أنها ستنجح في إقناعه بالسماح لها بالذهاب للسينما برفقة الجدة، حيث ستجد هناك طريقة للتخلص منها، والانفراد بحسام.
*****
نُشر هذا النص في ملحق شباب السفير, في 12/ 2/ 2014

الثلاثاء، 11 فبراير 2014

عن الشخص في انتظاره الموت أو العزلة

مكتوب على دفتر الـرسم الأسود كالمعتاد، لكن من دون قلم الحبر الأسود الناشف، عيار 0.7.
***
يعرف الشخص أن ما يرغب به هو العزلة، وبأنه بدأ يحقّقها. لكنه يعرف أيضاً أنه عند نيلها سيلهث خلف الناس من جديد. لذلك يحزن بلا ندم، على وحدته كما على اجتماعه.
***
- "الناس بتتاخد بطريقة التعبير والتفاصيل المميّزة اللي بتذكرها. بس هيدا مش أهم شي عندك. أهم شي هني شخصياتك، شخصياتك اللي ما فيهن ياخدو حب ولا فيهن يعطو".
- "
ليه ما فيهن ياخدو حب ولا يعطو؟".
- ...
***
يجلس الشخص على الشرفة المزجّجة حديثًا. إذا فجّر رجل نفسه داخل سيارته في الشارع الآن لأصبح جسده هو كالـ"مُنخل" من شظايا الزجاج.
***
- "أنا؟ أنا عادية متل كل البنات".
- "
لأ، أبدًا.. صوتك كتير حلو، وبصير أحلى بس تسكتي لأنو بضلو مسموع، يمكن لأنّك بتحبي. إنتِ بتحبي؟".
- ...
***
يطلّ الشخص برأسه من الشباك، ويتأكّد من عدم وجود الرجل والسيارة اللذين فكر بهما. الشارع مقفر، لا سيارات فيه ولا ناس: إنّه الفراغ. الفراغ الذي بدأ بالتمدد داخل رأسه منذ أن بدأ يغزو الشوارع مع اقتراب كل غروب، محيلًا كلّ شيءٍ إلى كدرٍ عميق مجهول السبب والمصدر.
***
- "يعني ما جرّب خليكِ تحبيني؟".
- "
ما بعرف. إنتَ وشطارتك، جرّب".
- ...
***
يلاحق الشخص نقاط الضوء القليلة التي تعبر شوارع الجبل المقابل، ويعدّها. ويحاول تمييز أصناف الأشجار، مفكّرًا أنها تنتظر مصيرها بصمت: أن يلتهمها الباطون. يضحك ثم يفكّر بما ينتظره هو: انتهاء هذا الصيف السرمدي المتمدّد إلى ما لا نهاية؟ ربّما.
***
- "كنت تحكيني من قبل، ليه بطّلت تحكيني؟".
- "
إنتِ بطّلتِ تحكيني كمان".
- ...
***

يعرف الشخص أنه بانتظار شيءٍ ما. لا يعرف ما هو لكنه يعرف أنه ينتظره، وذلك على الرغم من يقينه أنّ شيئًا لن يتغير. مستعيرًا قول دانتي في دائرته الجحيمية الأولى - الليمبو: "عذابنا أنّنا نحيا بلا أملٍ أبد الدهر".

*****
نُشر هذا النص في ملحق شباب السفير, في 5/ 2/ 2014