المدينة
ضبابيةٌ, رمادية, تضحي كذلك بعد كل هطولٍ للمطر.
سائق سيارة الأجرة يضحك. مطلقًا نكاتًا لا يتفاعل معها أحد. السيارة امتلأت: بائس يجلس إلى جانبه في المقعد الأمامي وثلاث آنسات على المقعد الخلفي.
"...كل عامٍ تتكدس الخسارات الصغيرة, خسارةً تلو خسارة, كالبركة التي تتشكل من نقاط الماء المتساقطة على بلاط الغرفة."
أربعة صبية يلعبون كرة القدم على حافة الشارع, في خمسة أمتارٍ بأربعة. قربهم يمرّ شابٌ ملتحٍ وصبيةٌ محجبة يضحكان بخجلٍ محبّب.
"...يتشكّل الإنكسار ببطء, هزائم صغيرة لا نشعر بها: ضحكةٌ خبيثةٌ من "صديق", صوت رصاص يرتفع ثم يختفي دون أن تعرف سببه, رفضٌ "مهذبٌ" لدعوة إلى فنجان قهوة, قراءةٌ في دفتر الوالد إلى العم الشهيد: "كأنك لم تزل هاهنا/ أو كأنّك لم تزل بيننا/ كأنّ الليالي التي أرّقتني, أرّقتنا سويًا..."
من المسجل العتيق في السيارة تنبعث أناشيدٌ ثمانينيةٌ قديمة,.رديئة التسجيل, مجعلكة الكلمات. تنويعات متعدّدة للحنٍ وحيدٍ حزين.
"...هزائم صغيرةٌ لا تشعر بها: تلطُّخ حذاءك القماشي بالوحل, تجاهل الأستاذ لك في الصف, الوصول إلى المنزل بعد يوم متعب واكتشاف أن والدتك لم تترك حصّة من الطعام لك, تحاشي من تحب, وتجهل حبك لها, لقاءك وعكسها وجهة سيرها عند رؤيتك."
أشعة ما قبل الغروب تنبعث من بين نتف الغيوم برتقاليةً صفراء على أبنية الإسمنت الرمادية, وعلى السيارات المتهالكة التي تتالى ببطء شديدٍ على حاجز الدرك.
"...الإنكسار كما كل عام, يترافق مع إنهيار فريق كرة القدم الذي تشجّعه. الصفر تلو الصفر والهزيمة تلو الهزيمة. ثم قبل الموت بقليل محاولةٌ آخيرةٌ للنهوض تبقيك على الحافة دون أن تنهضك, لتعيد المحاولة الفاشلة من جديد في العام الذي يليه."
يقترب صبيٌ يبيع المحارم من السيارة, سرعان ما يصرفه السائق بحركةٍ نزقةٍ من يده. ينصرف الصبي وهو يقفز في برك المياه الصغيرة التي خلّفتها شتوة البارحة.
"...الإنكسار أن تتضمحل كبركة ماءٍ صغيرة تتشرّبها الأرض ببطء, ببطء بينما يتكاثر العابرون حولها دونما اهتمام."
المدينة لا تكون حزينةً عند سقوط المطر بل في اليوم الذي يلي سقوطه, كأنها طالعةٌ من حربٍ طويلة.
"...الإنكسار هو أن تسترجع إنكساراتك السابقة كلها, بتفاصيلها وهزائمها لتكشف أن سوءًا كبيرًا لم يحصل معك, وأن موتًا لم يصيبك. لكنك كأي برجوازيٍ صغير, مستغرق في ذاتك حتى العبادة."
الشرطي يقف قرب عربة القهوة يرشف فنجانه ببطء. سائقو السيارات يطلقون "زماميرهم" غاضبين, بينما يواصل سائق سيارة الأجرة محاولة إضحاك الصبية الباقية في المقعد الخلفي. ينزل الشاب من المقعد الأمامي ويعبر بجانب السيارات المتوقفة على طول الطريق مفكرًا بغرفته الملونة حيث سيستسلم للنوم: " أيّها النوم، يا سيّد العطايا أنت، لماذا تطلّ و تذهب كالقمر؟ أيّها النوم لماذا لست كالحجر، كالسنديانة ، دائماً قاعداً لا تذهب و لا تختبىء؟ وحدك الانقاذ أنت، لا الكتابة و لا الحب.*"
________
* السطرين الأخيرين "أيها النوم..." مقتبسين من كتاب المظلة والملك وهاجس الموت, يوسف حبشي الأشقر, 1980.
سائق سيارة الأجرة يضحك. مطلقًا نكاتًا لا يتفاعل معها أحد. السيارة امتلأت: بائس يجلس إلى جانبه في المقعد الأمامي وثلاث آنسات على المقعد الخلفي.
"...كل عامٍ تتكدس الخسارات الصغيرة, خسارةً تلو خسارة, كالبركة التي تتشكل من نقاط الماء المتساقطة على بلاط الغرفة."
أربعة صبية يلعبون كرة القدم على حافة الشارع, في خمسة أمتارٍ بأربعة. قربهم يمرّ شابٌ ملتحٍ وصبيةٌ محجبة يضحكان بخجلٍ محبّب.
"...يتشكّل الإنكسار ببطء, هزائم صغيرة لا نشعر بها: ضحكةٌ خبيثةٌ من "صديق", صوت رصاص يرتفع ثم يختفي دون أن تعرف سببه, رفضٌ "مهذبٌ" لدعوة إلى فنجان قهوة, قراءةٌ في دفتر الوالد إلى العم الشهيد: "كأنك لم تزل هاهنا/ أو كأنّك لم تزل بيننا/ كأنّ الليالي التي أرّقتني, أرّقتنا سويًا..."
من المسجل العتيق في السيارة تنبعث أناشيدٌ ثمانينيةٌ قديمة,.رديئة التسجيل, مجعلكة الكلمات. تنويعات متعدّدة للحنٍ وحيدٍ حزين.
"...هزائم صغيرةٌ لا تشعر بها: تلطُّخ حذاءك القماشي بالوحل, تجاهل الأستاذ لك في الصف, الوصول إلى المنزل بعد يوم متعب واكتشاف أن والدتك لم تترك حصّة من الطعام لك, تحاشي من تحب, وتجهل حبك لها, لقاءك وعكسها وجهة سيرها عند رؤيتك."
أشعة ما قبل الغروب تنبعث من بين نتف الغيوم برتقاليةً صفراء على أبنية الإسمنت الرمادية, وعلى السيارات المتهالكة التي تتالى ببطء شديدٍ على حاجز الدرك.
"...الإنكسار كما كل عام, يترافق مع إنهيار فريق كرة القدم الذي تشجّعه. الصفر تلو الصفر والهزيمة تلو الهزيمة. ثم قبل الموت بقليل محاولةٌ آخيرةٌ للنهوض تبقيك على الحافة دون أن تنهضك, لتعيد المحاولة الفاشلة من جديد في العام الذي يليه."
يقترب صبيٌ يبيع المحارم من السيارة, سرعان ما يصرفه السائق بحركةٍ نزقةٍ من يده. ينصرف الصبي وهو يقفز في برك المياه الصغيرة التي خلّفتها شتوة البارحة.
"...الإنكسار أن تتضمحل كبركة ماءٍ صغيرة تتشرّبها الأرض ببطء, ببطء بينما يتكاثر العابرون حولها دونما اهتمام."
المدينة لا تكون حزينةً عند سقوط المطر بل في اليوم الذي يلي سقوطه, كأنها طالعةٌ من حربٍ طويلة.
"...الإنكسار هو أن تسترجع إنكساراتك السابقة كلها, بتفاصيلها وهزائمها لتكشف أن سوءًا كبيرًا لم يحصل معك, وأن موتًا لم يصيبك. لكنك كأي برجوازيٍ صغير, مستغرق في ذاتك حتى العبادة."
الشرطي يقف قرب عربة القهوة يرشف فنجانه ببطء. سائقو السيارات يطلقون "زماميرهم" غاضبين, بينما يواصل سائق سيارة الأجرة محاولة إضحاك الصبية الباقية في المقعد الخلفي. ينزل الشاب من المقعد الأمامي ويعبر بجانب السيارات المتوقفة على طول الطريق مفكرًا بغرفته الملونة حيث سيستسلم للنوم: " أيّها النوم، يا سيّد العطايا أنت، لماذا تطلّ و تذهب كالقمر؟ أيّها النوم لماذا لست كالحجر، كالسنديانة ، دائماً قاعداً لا تذهب و لا تختبىء؟ وحدك الانقاذ أنت، لا الكتابة و لا الحب.*"
________
* السطرين الأخيرين "أيها النوم..." مقتبسين من كتاب المظلة والملك وهاجس الموت, يوسف حبشي الأشقر, 1980.