صورة غريبة تنبعث في رأسه فيستفيق كما الأموات.يفتح عينيه اللتين لم يعرف يوما لونهما و ينظر دون ان يرى شيئا:سواد غريب يلف الغرفة ككل صباح.
يشق طريقه بصعوبة إلى خارج الغرفة مستعينا بشخير شقيقه الاكبر في الغرفة المجاورة,يدخل إلى المطبخ يفتح أحد الجوارير ويبدأ بالبحث عن شمعة مصدرا صوتا يقلق راحة النائمين,يجد ضالته, يشعل عود الكبريت ويضيئها.
يعود إلى غرفته مستعينا بضوء الشمعة المتراقص,يفتح خزانته ويغرق فيها باحثا عن ملابسه ككل يوم.
ها هو الان يسير ببطئ إلى باب المنزل ,نور خفيف كان قد بدأ بالانبعاث عبر النوافذ.يضع الحبيقة المرمية على جانب الباب ثم يفتحه ويخرج وككل يوم ينزل على الدرج المعتم محاولا عدم السقوط على وجهه.
وككل السنوات السابقة ينطلق إلى ذلك المبنى ,كل صباح في كل يوم في كل أسبوع من حياته, يمر بالشارع نفسه والأبنية نفسها والأشخاص أنفسهم حتى ذلك العجوز بثيابه القديمة وقبعته الصوفية التي كان يرتديها بالصيف والشتاء يلقي عليه التحية وهو يحاول فتح باب محله الحديدي .كان يرهقه هذا الشارع الخالي من أي روح فيسرع الخطى هاربا.
يصل إلى بناء المدرسة ويقف دون سبب منتظرا مرور أحدهم,ثواني قليلة تمر ثم يركض مسرعا إلى الداخل قبل أن يقوم الحارس بإقفال الباب بوجهه إن تأخر أكثر.كان يكرهه,كان يكره كل من في المدرسة لكنه دائما ما حاول إيجاد أعذار لهم حتى هذا الحارس, كان يشعر بأنه يحتاج للاحساس بالقوة ولحظة غلق الباب في وجه احدهم هي الوحيدة التي تمنحه ذلك.
يقف الان داخل المبنى في ظل أعداد لا متناهية من الفتيان:كانت مدرسة للذكور ولكنه كان يعتقد بوجود جنس أخر وتأكد من ذلك حين أخبره رفيقه بكل شيء,مشهد الذكور هذا كان يصيبه صبيحة كل يوم بنفس الرعب الذي أحس به في المرة الاولى.
هنا أيضا يجب صعود لدرج ,مشكلته كانت بأنه هذه الادراج لا تتغير ولكم تكن يوما بالصعود والنزول.
يصل إلى الصف منهكا بعد نجاحه في الخروج بسلام بين أفواج التلاميذ الصاعدة على الادراج التي لا تتغير ,ينظر إلى الأستاذ الدائم الابتسام وهو يرمي بنفسه على المقعد مستمعا إلى ثرثرة الرجل الضاحك اليومية.
وقت طويل يمضي قبل أن يدخل ذلك الفتى الأشقر المغرور بثيابه الغريبة متاخرا كعادته ,جالسا أمامه وموزعا نكاته السمجة على جميع من حوله.
ذلك كان يحدث يوميا لكن هذا اليوم لم يكن كغيره من الأيام,في هذا اليوم اجتاحه شعور غريب انها تلك الرغبة الغامضة بالتغيير,لم يكن يحب هذا المغفل لذا رفع يده اليمنى إلى أقصى درجة ممكنة وهوى بها على الرأس الموجود أمامه :صوت قوي ,نكتة تتحول إلى شتيمة وضحكة حمقاء تتحول إلى أنين .
تهرع الناظرة إلى الصف ويتبعها المدير الطويل المفرط في سذاجته ,الصبي الأشقر يدفن رأسه تحت يديه والفتى جالس خلفه وابتسامة خفيفة تظهر على وجهه.يبدأ ذلك الساذج بالكلام يزيد من حدة كلامه تارة ويخفضها تارة أخرى لكن هذا اليوم لم يكن ككل الأيام كان قد مل منه ومن حديثه المثير للغثيان ,في هذه اللحظة مرت جميع السنوات السبعة عشر الماضية في رأسه ,تذكر كل شيء من البداية إلى الصورة الغريبة التي رأها هذا الصباح,انتفض واقفا,اقترب من الرجل ولأول مرة لم يراه طويلا -كما اعتاد- وانفجر فيه غاضبا مفرغا كل ما في قلبه منذ سبعة عشر عاما إلى اليوم وشاتما إياه بمختلف أنواع الكلمات التي تعلمها في هذه المدرسة .يخرج من الغرفة ويصفق الباب بقوة مخلفا وراءه صمتا طويلا .
كان يرى العالم رماديا لكن هذا اليوم لم يكن ككل الأيام ,يدفع البوابة بقوة ويخطو خطوته الاولى خارج المدرسة فيرمي الله بدلو ألوانه من السماء مالئا دنيا الفتى بالألوان .
يرمي نظرته الاخيرة على المبنى الذي أصبح بنيا ,يطلق صرخة قوية وينطلق راكضا في ذلك الشارع الضيق مقبلا المارة ,معانقهم وملقيا" التحية على الجميع.في حالة جنونه العاقل هذه تمر سيارة زرقاء مسرعة و ترمي بجسده إلى الجانب الاخر من الطريق.
لم يحدث شيء مهم حقا ,,,
لقد مات فقط كالكثيرين غيره في ذلك اليوم العادي