الاثنين، 6 مايو 2013

وكأن شيئًا لم يكن...

  صورة الشهيد -الذي أحمل اسمه- على المدخل الشمالي للقرية حيث توجد بضعة أشجار حورٍ وتلال لم تطئها قدمٌ منذ أن مرّ بها المسيح في طريقه لقانا الجليل, أكلها الصدئ والمطر العتيق شيئًا فشيئًا بشكل عامودي من الجبهة حتى آخر الفم, لم يبقى منها سوى شبه عينين.

منذ فترة بعيدة نزعت هذه الصورة الحديدية أو ربما حولها صاروخٌ اسرائيلي إلى سراب فاستبدلت بصورة من النيون مستطيلة في ساحة القرية يتوسطها الشهيد الذي أحمل اسمه, عن يمينه مفجّر مقر الحاكم العسكري في صور:"الاستشهادي الأول في الجنوب" وعن يساره من قيل أنه مفجّر مقر المارينز في بيروت.

...عندما مررت بالصورة الأولى وأنا صغير انتابني احساس يملأ الروح بالحزن وبوطئة الزمن والنسيان. عندما مررت البارحة أمام الصورة الجديدة انتابني الحنين الى الصورة القديمة وتفاعلاتها مع عناصر الطبيعة والحزن لتجاهل بقية الشهداء.
****
يتساءل ميلان كونديرا في "كائن لا تحتمل خفّته" عن أثر حرب في القرن الرابع عشر بين مملكتين أفريقيتين قتل خلالها 30000 زنجي على مجرى التاريخ؟

يقول محمود درويش في "جدارية":" وكأن شيئًا لم يكن/ جرحٌ طفيف في ذراع الحاضر العبثي/ والتاريخ
يسخر من ضحاياه/ ومن أبطاله/ يلقي عليهم نظرة ويمر."

يتحدث يوسف حبشي الأشقر عن "ضد البطل/ بطل" ثلاثيته الروائية اسكندر فيقول:
"ربما, ربما!... ما لم يقله أبوه يعرفه هو, عزلته بالأصل نظرة إلى الحياة كنظام موقت وعمره لم يعن له الموقت شيئًا (1). لكن الكتابة, الكتابة كانت بالنسبة إليه الطريقة الوحيدة للشعور بالقوة, حلم القوة, السطوة, القدرة, القدرة على أن يكون الله.(2)"
يقول اسكندر: " أنا الانسان - الاله هكذا صوّرت ذاتي بعد أن قتلت الاله- الاله.شئت دائمًا أن أكون بائع سعادة غير كاذب أي ليس كالإله الذي قتلته لأنه كان بائع سعادةٍ كاذبًا أو كثير الوعود أو كثير الكلام..فزينت صورتي من الداخل والخارج بخصال الله التي لطالما رجوتها, ثم عرفت أني عاجزٌ أن أكون بمستوى الصورة ومستواها هو حقيقتي الوحيدة ونبع تصرفي الوحيد.
كنت كلما واجهت عجزي قلت ان الخلاص ليس أبديًا وأنه لكل وقت اله وكنت أقبل بالجواب دون رضاء, حتّى انتهيت الى التخلي عن دوري وتبيّن لي أني أتخلى عن ذاتي وبهذه الحالة ما صار معناي؟ ما معنى ذلك؟ معناه أن لا معنى لي.(3)"

ربما إذن الاستسلام لـ"كأن شيئًا لم يكن..."


***************************************

أنا لا أحبُّ عبد الناصر.

أنا لا أحبّ عبد الناصر, هناك أسباب كثيرة لكي لا أحبه: كونه عسكريًا, وكونه تألّه من شعبه, وكونه ديكتاتورًا ولو بنوايا طيبة.. أو أن السبب هو خليط من هذه العناصر الثلاثة: العسكري الذي وصل بالانقلاب الى سدّة الحكم وأضحى مخلّصًا للأمة وديكتاتورًا يحبّه الملايين من المحيط الى الخليج مسبّبًا هو وغيره من العسكر الذين حكموا من تونس الى سوريا الوضع الذي وصلنا اليه اليوم نتيجة القمع والكلام الكثير والجيوش الورقية وخيبات الأمل..

لا أحب عبد الناصر لأنه كأي ديكتاتور آخر مات ومات كل شيء معه, أحلام جيل بأسره, أحلام شعبٍ بأسره, أحلام أمّة بأسرها..
.....
في فيلم الزمن الباقي لإيليا سليمان يصوّر ابن الناصرة أثر وفاة عبد الناصر على أبناء مدينته... هل هناك احساس بالخذلان والوحدة وانتفاء الأمل أكثر من هذا؟



.....
يقول أبي أنه يذكر حين كانوا صغارًا في الكويت كيف كان يجلس الكبار في المساء للاستماع للراديو, وكيف أنه في المساء الذي أعلن فيه راديو القاهرة وفاة القائد جمال عبد الناصر, هرب عمه من المنزل بعد شجار طويل مع الاخوة والزوجة والاولاد للالتحاق بفدائيي الـ م.ت.ف
.....
يقول صديقي "الجديد" الذي تزيد كثافة شعره من كبر حجم رأسه في احدى جلسات التداعيات المتزايدة بيننا في الفترة الأخيرة, أن جدّته أخبرته أن في كل قريةٍ من قرى البلاد أقيمت جنازة لجمال عبد الناصر بنعشٍ واكاليل ورود ومسيراتٍ وصلاة ميتٍ حتّى, وأخبرته أيضًا بأنها سمت والده جمال على اسمه.


*****

(1): الظل والصدى, يوسف حبشي الأشقر (ص 468)
(2): لا تنبت جذور في السماء, يوسف حبشي الأشقر (ص 234)
(3): الظل والصدى, يوسف حبشي الأشقر (ص42)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق