- I -
لنمعن النظر قليلًا في هذه الصورة. إنها صورة مؤلّفة من ثلاثة أبعاد: نرى في المقدمة امرأة تقف مع أولاد يقطفون الزهور. في المنطقة الوسطى، نرى أعشابًا برّية عشوائية النمو. أما في الخلفية فنرى أشجاراً في أعلى الزاوية اليمنى، أو ربّما أساسات لبناء قيد الإنشاء؟ لا فرق، فالصورة غير واضحة لنميّز ما في الخلفية.
لنتفق إذاً أنها صورة ببعدين فقط.
حين نحدّق في رأس المرأة المحجّبة، سنشعر بوجود شيءٍ ما في كعب الصورة. ننزل بأعيننا لنرى ولداً ثالثاً يجلس القرفصاء. لا يظهر منه غير رأسه وجزء صغير من جسمه. إذاً لدينا من جديد صورة بأبعاد ثلاثة. طريقة إحاطة الأولاد بالمرأة تشير إلى أننا أمام صورة عائلية لأمٍّ مع أولادها. خاصةً مع الألفة البادية في تعاطيهم مع المصوّر: انحناءة خجلٍ خفيفة من الأم، نظرة واثقةٌ من الصبي إلى يسارها، عفويةٌ من الصبي إلى يمينها، ومستكشفةٌ من الصبي تحتها، إضافة لغياب العناية بقواعد التصوير، وملامح الوجوه، لاهتزاز الكاميرا ربما أو لسوء التحميض. لكن إن كنّا حقًّا أمام صورةٍ عائلية، فلماذا لم ننتبه للصبي القابع في أسفلها منذ البداية، كأنّه غيّب عمدًا؟
دعنا ننظر للصورة مرّة أخرى. يمكننا ملاحظة مثلّثٍ مكوّنٍ من الرؤوس الثلاثة السوداء للأم والولدين الواقفين إلى جانبها، مما يعطيهم حضوراً أكبر، ويلفت الانتباه إليهم أسرع من الصبي الجالس أرضاً والذي يماثل لونه لون النباتات خلفه.
حقًا؟
قد يساعدنا التعرّف على زمن التقاط الصورة في توضيح السبب أكثر. رغم اللون الأبيض والأسود، يتكوّن لدينا انطباع أننا أمام صورةٍ التقطت في بدايات الربيع. الأزهار التي تحيط بالعائلة والفرح المرتسم على وجوه أفرادها. إضافة للثياب الطويلة الأكمام والتي تؤكّد أننا لسنا في الصيف أيضًا، وبأننا ما زلنا في بداية الربيع. ومن خلال الظلّين القصيرين لرأسيّ الأم والصبي إلى يسارها نستنتج أن الصورة التقطت عند الظهيرة، أو بعد ذلك بقليل. إذن شمس الظهيرة هي السبب الآخر في تغييب الصبي، كونها تسطّح أبعاد الصورة، محيلةً إياه إلى جزء من الأعشاب والزهور الموجودة خلفه؟
ــ II ــ
قد توضح حكاية الصورة لماذا لم يكن للصبي القابع في أسفلها ثقلٌ يذكر.
التقطت هذه الصورة في قريتي الجنوبية القريبة من ساحل صور، قبل سنة أو سنتين من الاجتياح الإسرائيلي. يظهر في الصورة كلٌ من جدتي وأعمامي الثلاثة، من دون بقية العائلة.
الصبي القابع في أسفل الصورة هو عمي مرتضى.
التقطت هذه الصورة قبل ساعاتٍ قليلةٍ من وفاته، إثر تعرضه لـ«لطشة كهرباء»، حين تطوّع لمساعدة العمال في توصيل الكهرباء إلى مدرسة القرية التي كانت قيد الإنشاء. حيث سقط شريط الكهرباء في بقعة من الماء على سطح المدرسة. وعندما حاول إمساكه، تكهرب وتوفى مباشرةً.
يبدو أن لا مكان لمرتضى في الصورة. وجوده المفتعل في أسفلها، كأنّ صورته ألصقت على الفوتوشوب، الغشاوة التي تغيّب ملامح وجهه أكثر من الباقين. ولونه المشابه للون العشب خلفه محا خصوصيته، محوّلًا إياه جزءًا من الطبيعة، لا كياناً قائماً بذاته. مثله مثل المبنى القابع في خلفية الصورة، وهو مبنى المدرسة بالمناسبة. كأنّ هذه الصورة كانت إنذارًا بغيابه. البناء البعيد غير الواضح المعالم في الخلفية، بعيد حتى يكاد لا يرى. الصبي غير الواضح المعالم في المقدمة والقريب حتى يكاد لا يرى.
ــ III ــ
... ضحك والدي عليّ حين أريته ما كتبته. قال لي إن عمي مرتضى ليس من يجلس القرفصاء. ودلّني بإشارة من يده إلى أحد الصبيّين الواقفين قرب جدّتي.
ــ IV ــ
تلتمع في رأسي حادثة ذكرها كريستوف كيشلوفسكي: «في أحد الأيام كنت أشاهد فيلماً مع كاتبٍ كبيرٍ في السن ومخرج صديق لي. كلنا اعتقدنا أن الفيلم عادي تماماً، باستثناء الكاتب الذي أبدى إعجابه بالفيلم، وبالأخص المشهد الذي يدور في المقبرة، حيث يظهر رجل يرتدي ملابس سوداء. لا أنا ولا زميلي شاهدنا ذلك الرجل، زميلي أصرّ على عدم وجوده. لكن الكاتب أكّد أنه رآه. بعد أسبوع، مات الكاتب».
ــ V ــ
سأعترف بشيءٍ. والدي لم ير ما كتبت. كنت أعرف قبل أن أبدأ بالكتابة أن القابع في كعب الصورة ليس عمي المتوفّى بل أحد عمومتي الأحياء، لكنني كنت مأخوذاً بفكرتي فواصلت الكتابة. الآن سيبدأ بعضكم بتخمين أيٍّ من الصبيّين الواقفين قرب جدتي هو عمّي، غير منتبهين إلى أنني قد كذبت عليكم، وأن من يكذب مرّة يستطيع الكذب بشكل دائم.
من المؤكّد أنني لا أعرف تاريخ التقاط الصورة ولا مكانها. وقد لا يكون لي أدنى علاقة بها: وجدتها مرميةً على قارعة الطريق أو اشتريتها من سوق الأحد. الأشخاص الموجودون فيها قد لا يمتّون لي بصلة. قد تكون صوّرت في الجنوب أو الشمال أو البقاع أو في أي مكان آخر. الآن هل يستطيع مَن قرأ حكاية مرتضى أن ينزعها من رأسه ليؤلف للصورة حكاية أخرى؟
كازنتزاكيس فعل ذلك بأليعازر وسارماغو فعل ذلك بالمسيح. خالق الحكايات كما الراوي يكذب دائمًا، لا حاجة لتصديقه. على كلّ شخصٍ أن يخلق حكايته الخاصة، كذبته الخاصة.
*****
نُشر هذا النص في ملحق شباب السفير, في 26/ 2/ 2014