تحدث الصديقين طويلاً عن العلاقات العاطفية,عن الفتيات وطريقة تفكيرهن,نظرتهم للفتيان وعندما أخبرته الفتاة أن كل فتاة تبني في مخيلتها صورةً عن ما تريده لمستقبلها أن يكون:عن حياتها الزوجية والأمومة,عن عدد الأطفال التي ترغب بإنجابهم,عن درجة التحصيل العلمي التي تريد الوصول إليها,عن رغبتها بالعمل أو لا...فوجئ كثيراً ولم يستطع فهم الأمر.
سألها: "حتى انتي هيك سالي؟ طيب انتي شو بدك يصير معك ؟"
ارتبكت الفتاة وغمغمت ببضع كلمات عن عدد الأولاد الذي ترغب بانجابهم ,عن رغبتها في السفر إلى الخارج والعمل هناك صمتت قليلاً ثم تابعت: "مش هيك يا رياض,مش هيك القصة,أنو هولي القصص لازم تنسأل عنن لتجاوب,ما فيك تحكيون هيك دفعة وحدة,لازم تنسأل عنن وحدة وحدة."
صمت الشاب قليلاً وفكر بأنه يحتاج حقاً لشخص يسأله عن حياته حتى يفصح عن كل شيء ويعبر عن كل ما يعتمل في صدره منذ ولادته حتى اليوم,فكر بأن يطلب من سالي ذلك لكن الفتاة قطعت عليه خلوته وأفكاره موجهةً إليه سؤالاً أخافه:"انت كيف بتحب تموت؟" وانخرطت في نوبةٍ من الضحك.
نظر إلى صحن الـ fondant au chocolat الذي كان قد طلبه وقال:"ضلني عم اكول شوكولا حتى انفزر وموت,بتضلا العالم تحكي بالقصة شي سنة."
تجهم وجه سالي ورفعت رأسها وأمعنت النظر في عينيه محاولةً التأكد من جديّة كلامه لكنه سرعان ما أشاح بوجهه بعيداً عنها وأخذ يتكلم عن ملله من الجلوس دون القيام بشيء بانتظار بدء الجامعة.
بعد عدة أيام وجد رياض ميتاً في المطبخ...
رياض كان فتى عادياً جدا.الإبن البكر لوالدين من جيل الحرب,أبوه مهندس وأمه معلمة على قدرٍ جيدٍ من الثقافة والإلتزام الديني البعيد عن التزمت حالهما كحال الكثيرين من أبناء جيلهما. طفولته المبكرة عادية جداً,مشابهة لحياة الكثيرين غيره من الأطفال يلعب,يأكل وينام في وقت محدد.الأمر نفسه بالنسبة لهيئته:ضعيف البنية,ذو شعر أسود وعينين بنّيتين وبشر حنطية بين الأسمر والأبيض.
اختلافه الوحيد عن البقية كان ربما في ولادته في مستشفى موجود في الشطر المسيحي من العاصمة وهو مسلم الأمر الذي لم يكن موضع ترحيب كبير خاصةً أن ولادته كانت بعد إنتهاء الحرب بأيام قليلة.
حياته قبل المدرسة لم تشهد اختلافٍ كبيراً عن حياته فيها.انضم لإحدى المدارس التابعة لطائفته وتلقى فيها إلى جانب تعليمه الأكاديمي -والذي لطالما فضل فيه العلمي على الفني والأدبي- تعليماً دينياً مثله مثل باقي أبناء طائفته والطوائف الأخرى في وطنه.
شغفه بالقراءة وإمضاءه لكثير من الوقت في قراءة القصص والحكايات منحته نوعاً من الإختلاف ومديحاً كثيراً من "الكبار" أما بالنسبة له فكانت فعلاً عادياً من أفعال الإنسان العادية,خاليةٍ من أي قيمةٍ إضافية.
سنواته التالية لم تحمل أي جديد,تراجع في مستواه الدراسي,عشق لكرة الفدم ولفريق أرسنال بسبب حبه للهولندي دينيس بيركامب,تعمق قراءته عاماً بعد عام,محاولة متعددة لكتابة الشعر والحب...
شراء الـ DVD Player كان حدثاً مهماً في حياته أو هذا ما كان يظنه.استهواه عالم السينما ونجح بسرعة بالإنتقال من متابعةً الأفلام التجارية إلى الأفلام الجادة ومن بعدها البدء بالإنفتاح على سينما أوروبا وأسيا.اهتمامه بالسينما وإلمامه بعالمها عزز فيه الإحساس بالتميّز عن رفاقه وعزز هذا الشعور تعليقات الأصدقاء والأقرباء لكن كل هذا كان لمدةٍ قصيرة فسرعان ما اعتبر أن مشاهدة السينما ليست سوى وجهٍ أخر للقراءة,أكثر عمقاً ربما لكنه مثلها فعلٌ أخر من أفعال البشر العادية.
لاحقاً تعددت محاولته:في الكتابة وأثمرت نصوصاً عاديةً مشابهةً لهذا النص,في صناعة فيلم فشل فشلاً ذريعاً,في التقاط صورٍ مبتكرة لم تنجح يوماً في إيصال فكرته منها وفي محاولاتٍ أخرى في الحب تأرجحت دائماً بين النهوض والسقوط.
عندما وجد رياض ميتاً في مطبخ المنزل عثر بقربه على لوح chocolat noir أكل نصفه فقط.لم يعرف أحد سبب موته إلا سالي وسلّة المهملات التي كانت مملؤة بأوراق الشوكولا.
لم يثر موته إهتمام أحد فقد مات ميتةً عادية كغيره من الناس العاديين الذين ماتوا ميتةً عادية في ذلك اليوم العادي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق