كانت تمشي بهدوء على الطريق المستقيم الطويل الممتد من مدخل الجامعة، حيث يقف، إلى مدخل الكلية حيث يدرسان. شمس ما قبل الغروب البرتقالية تضفي على خصلات الشعر الأشقر ألقًا غريبًا مُسكرًا.
تأكد من أن يديه تدفئان جيبيه جيداً، وانطلق في إثرها محاذراً أن تشعر به خلفها. وحين أصبح وراءها تماماً وامتلأت رئتيه بالرائحة الخفيفة لعطرها، مدّ يده برشاقة ملامساً يدها الصغيرة, فالتفتت إليه. إذ ذاك سقط الضوء البرتقالي على عينيها العسليّتين فأغمضتهما قليلاً وابتسمت، فرأى الجرح غير الملتئم أسفل العين اليمنى.
سألته: «وينك؟ إلك أكتر من شهر مختفي؟». وعندما لم تتلق جوابًا فتحت عينيها، وانتبهت إلى أنه يحدّق في الجرح. مررت أصابعها عليه وقالت إن السكين أفلت من أختها وأصابها: «كانت ريم حاملة السكينة بالعالي وعم تلعب فيها وأنا حاملة التفاحات، وكنا كتير مبسوطين، ما بذكر ليه. بعدين زحطت السكينة من إيدها وإجت تحت عيني..».
ابتسم مذهولا, دون كثيرٍ من اقتناع، وتمنى لها الشفاء. فكررت سؤالها له عن سرّ غيابه الطويل:
- «إيه، ما خبرتني. وين مختفي كل هالوقت؟».
- «كنت بالضيعة عم عدّ النجوم».
لم تنتبه لبريق الدموع في عينيه. كانا قد استأنفا سيرهما جنبًا إلى جنب، وكانت نظراتها مثبتة على صف أشجار البندق إلى يسارها. ضحكت وسألته:
- «طيب وبالنهار شو كنت تعمل؟».
- «كنت نام وأحلم أنو عم عدّ النجوم».
ثم أخذ يضحك بسخرية ليبدّد الدموع من عينيه. نظرت ناحيته وضحكت معه بفرحٍ، دون أن تنتبه لشيء. قالت له إن ضحكته جميلة، تجعل من يسمعها يضحك.
عندما أنهت كلامها وكانت تنظر ناحيته، التفت إلى جسمها الذي ازداد نحولاً وسألها إن كانت لا تزال تكتفي بالقهوة والدخان عوضًا عن الطعام، فهزّت رأسها إيجاباً.
- «ومش عم تنامي منيح كمان. شوفي عيونك كيف صاروا حمر! هلأ بس نوصل ع الجامعة بشتريلك سندويش، بكرا ببطل حدن يتزوجك إذا ضليتي هيك، بلا أكل».
نظرت إليه ضاحكة: «أنا أصلاً ما بدي إتزوج». وانطلقت راكضة، تقفز من مربعٍ إلى مربع محاذرةً أن تدعس برجليها الصغيرتين على الخطوط المكوّنة لمربّعات إسمنت الأرضية. لحق بها بالطريقة نفسها، ثم قال وهو يواصل الضحك:
- «طيب ببطل حدن يحبّك».
فأجابته وهي تبطئ من حركتها: «أنا ما بدي لا حب ولا إنحب».
- «يعني ما جرب خليكِ تحبيني؟»، قال لها وقد عادا للسير ببطء وتوقفا عن الركض. فاستدارت نحوه وقالت بسرعة:
«ما بعرف. إنتَ وشطارتك، جرّب». ثم ضحكت وضحك مفكّرًا وهو ينظر لنتف الغيوم البرتقالية، بأنها لم تدرك أنه إنما اعترف بالحب.
*****
نشرت هذه القصة في ملحق شباب السفير في 22/1/2014