كنّا على طاولة الغداء، نأكل ونتحدث غير مبالين
بالصمت المتواطئ الذي يملأ الأمكنة. لم تبكِ السماء دمًا ولم يلمع نجمٌ في الشرق
أو ينخسف القمر، كان هناك فقط صمت مريب، في الجامعة، في الشوارع، في سيارة الأجرة
وفي المصعد حتى. فجأةً سُمع دويٌ عظيم، وكان خراباً.
"كأنّو علّق الشريط"، كذلك هي تلك الرغبة المرضية التي تصيبك بتكرار لحظةِ الانفجار، بتكرار لحظات النشوة الأبدية تلك، التي تحملك لهدوء ما قبل الخليقة والخطيئة، ما قبل آدم وقايين والجريمة الأولى والغراب. لا يقطعها سوى صوت واحد من نافذةٍ واحدة يتكرّر بمونوتونيةٍ غريبة: "الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر عليكم، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر عليكم، الله أكبر، الله أكبر.."، معلنةً بداية الانهيار وتدافع الناس إلى موقع الانفجار. فتعرف عندها أن هوسك بالتكرار هذا ليس إلّا لمعرفتك بأنّ ما سيلي ثواني الأبدية هذهِ ليس كما قبلها، متنشّقًا رائحة دمٍ تزكم الأنوف بدأت بالتسلّل إلى البيوت.
ثم تتنهد قائلًا: "نجوت". حتى قبل أن تتذكر من تحب ـ والديك، إخوتك، الفتاة التي تحب، أصدقاؤك وكل من تعرف أنهم يمرون في هذا الشارع ـ كأنّ القيامة الآن، أو كأنّنا في قيامة مؤقتةٍ قصيرة، بروفة لليوم الذي يفرّ فيه المرء من أخيه وأمّه وأبيه وصاحبته وبنيه، اليوم الذي لكل امرء فيه موتٌ يلهيه.
وبعد انقضاء ثواني الأبوكاليبس هذه، تبدأ الهواتف بالرنين مختلطةً بأصوات البكاء وسيارات الإسعاف ومذيعي الأخبار.
وحين يُسحب الموتى من الشوارع، ويُسيطر فراغٌ جنائزي عليها. تحسّ بحجرٍ رمي من السماء في فمك، بين المعدة والرئتين. لا أنتَ قادرٌ على بصقه ولا هو يعرف كيف يجد سبيله إلى الأمعاء خارج المعِدة. قابعًا في منطقةٍ وسطى، محيلًا كل محاولةٍ لإكمال الطعام، كما للتنفس، أمراً صعباً، بل شبه مستحيل. وتوشك أن تغيب عن الوعي، قبل أن تتذكر حكايةً للصغار قرأتها في كبرك عن صبيٍ بثقبٍ كبير في جسده يبتلع به الحزن. فتقرر أن القابع في جسدك ثقبٌ سيأخذ بالتوسّع إن لم تملأه، وتبدأ بالتنفس بكل ما أوتيت من قدرة، وبالأكل بكل ما أوتيت من فجع، لتشعر بالطعام ينحشر في معدتك ويجرح زلعومك، لتشعر بوجودك، ولا تشعر. كلما أكلت أكثر، يتسع الثقب أكثر ويضمحل وجودك أكثر.
تفتح هاتفك المحمول وتحاول أن تتصل بأي كان، لكن الخطوط مقطوعة. فتبدأ من شاشة الهاتف نفسه بمراقبة الأنبياء الرقميين يتقيؤون كلماتهم في الموقع الأزرق. متحسّسًا غباءهم الذي ينمو باضطراد مع ازدياد المعجبين بكلماتهم. قبل أن تعذرهم، مؤكّدًا لنفسك أن حاجتهم للأمان والتأكّد من وجودهم هي الدافع لكل هذا القيء. كما هي حاجتهم للإمساك بالفراغ الذي يطفو على حياتهم فجأة مبتلعاً كل شيء، الحاجة نفسها التي تكتب من أجلها هذا النص. تفكّر بذلك بينما تتحسّس الثقب الذي بدأ بابتلاع وجهك. يتقيّؤون كلماتهم ليشعروا بأنهم ما زالوا في اللعبة وبأنّ أحدًا ما بقربهم، ولو كان قرباً مزيّفاً. تحس باختفاء الهاتف من يدك اليمنى، تنظر إليها فلا تجدها. تتحسس بيدك اليسرى ما تبقى من وجهك، وتهرع إلى المرآة لتلقي نظرةً أخيرة عليه وأنت وتفكّر بأننا من شدّة تشابهنا، في الخوف والموت، صرنا عاجزين عن مواساة بعضنا. تصل للمرآة فتبصر شيئاً ما يضمحل بسرعة عاجزًا عن تمييزه، تستند بيدك اليسرى محاولًا إمعان النظر في المرآة أكثر، مفكراً بأننا عبءٌ على المؤرخ، عبءٌ على الرسام، كما يقول الشاعر، وبأنّنا مستعدون للتخلي عن قليل الحياة هذا لننجو من كل هذا الموت.
*****
نشر هذا النص في ملحق شباب السفير في 7/1/2014
"كأنّو علّق الشريط"، كذلك هي تلك الرغبة المرضية التي تصيبك بتكرار لحظةِ الانفجار، بتكرار لحظات النشوة الأبدية تلك، التي تحملك لهدوء ما قبل الخليقة والخطيئة، ما قبل آدم وقايين والجريمة الأولى والغراب. لا يقطعها سوى صوت واحد من نافذةٍ واحدة يتكرّر بمونوتونيةٍ غريبة: "الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر عليكم، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر عليكم، الله أكبر، الله أكبر.."، معلنةً بداية الانهيار وتدافع الناس إلى موقع الانفجار. فتعرف عندها أن هوسك بالتكرار هذا ليس إلّا لمعرفتك بأنّ ما سيلي ثواني الأبدية هذهِ ليس كما قبلها، متنشّقًا رائحة دمٍ تزكم الأنوف بدأت بالتسلّل إلى البيوت.
ثم تتنهد قائلًا: "نجوت". حتى قبل أن تتذكر من تحب ـ والديك، إخوتك، الفتاة التي تحب، أصدقاؤك وكل من تعرف أنهم يمرون في هذا الشارع ـ كأنّ القيامة الآن، أو كأنّنا في قيامة مؤقتةٍ قصيرة، بروفة لليوم الذي يفرّ فيه المرء من أخيه وأمّه وأبيه وصاحبته وبنيه، اليوم الذي لكل امرء فيه موتٌ يلهيه.
وبعد انقضاء ثواني الأبوكاليبس هذه، تبدأ الهواتف بالرنين مختلطةً بأصوات البكاء وسيارات الإسعاف ومذيعي الأخبار.
وحين يُسحب الموتى من الشوارع، ويُسيطر فراغٌ جنائزي عليها. تحسّ بحجرٍ رمي من السماء في فمك، بين المعدة والرئتين. لا أنتَ قادرٌ على بصقه ولا هو يعرف كيف يجد سبيله إلى الأمعاء خارج المعِدة. قابعًا في منطقةٍ وسطى، محيلًا كل محاولةٍ لإكمال الطعام، كما للتنفس، أمراً صعباً، بل شبه مستحيل. وتوشك أن تغيب عن الوعي، قبل أن تتذكر حكايةً للصغار قرأتها في كبرك عن صبيٍ بثقبٍ كبير في جسده يبتلع به الحزن. فتقرر أن القابع في جسدك ثقبٌ سيأخذ بالتوسّع إن لم تملأه، وتبدأ بالتنفس بكل ما أوتيت من قدرة، وبالأكل بكل ما أوتيت من فجع، لتشعر بالطعام ينحشر في معدتك ويجرح زلعومك، لتشعر بوجودك، ولا تشعر. كلما أكلت أكثر، يتسع الثقب أكثر ويضمحل وجودك أكثر.
تفتح هاتفك المحمول وتحاول أن تتصل بأي كان، لكن الخطوط مقطوعة. فتبدأ من شاشة الهاتف نفسه بمراقبة الأنبياء الرقميين يتقيؤون كلماتهم في الموقع الأزرق. متحسّسًا غباءهم الذي ينمو باضطراد مع ازدياد المعجبين بكلماتهم. قبل أن تعذرهم، مؤكّدًا لنفسك أن حاجتهم للأمان والتأكّد من وجودهم هي الدافع لكل هذا القيء. كما هي حاجتهم للإمساك بالفراغ الذي يطفو على حياتهم فجأة مبتلعاً كل شيء، الحاجة نفسها التي تكتب من أجلها هذا النص. تفكّر بذلك بينما تتحسّس الثقب الذي بدأ بابتلاع وجهك. يتقيّؤون كلماتهم ليشعروا بأنهم ما زالوا في اللعبة وبأنّ أحدًا ما بقربهم، ولو كان قرباً مزيّفاً. تحس باختفاء الهاتف من يدك اليمنى، تنظر إليها فلا تجدها. تتحسس بيدك اليسرى ما تبقى من وجهك، وتهرع إلى المرآة لتلقي نظرةً أخيرة عليه وأنت وتفكّر بأننا من شدّة تشابهنا، في الخوف والموت، صرنا عاجزين عن مواساة بعضنا. تصل للمرآة فتبصر شيئاً ما يضمحل بسرعة عاجزًا عن تمييزه، تستند بيدك اليسرى محاولًا إمعان النظر في المرآة أكثر، مفكراً بأننا عبءٌ على المؤرخ، عبءٌ على الرسام، كما يقول الشاعر، وبأنّنا مستعدون للتخلي عن قليل الحياة هذا لننجو من كل هذا الموت.
*****
نشر هذا النص في ملحق شباب السفير في 7/1/2014
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق