الخميس، 16 أغسطس 2012

مانيفستو الجنون


والدته في غرفة الجلوس تشاهد المسلسل اليومي ذاته الذي يعاد كل يوم,شقيقته في المطبخ تستعد للبدء بتحضير طعام الغداء,شقيقه في الغرفة يترنم بأغنية قديمة حزينة كلماتها ليست واضحة,يرمي الكتاب على السرير بقوة ويدخل الحمام مسرعًأ مغلقًا الباب بإحكام.ينزل الـ"شورت" الرمادي والسروال الداخلي ذو اللون نفسه ويمعن النظر,ينزل يده أيضًا
 "
لا زال في مكانه" -يقول لنفسه-
يرفع الشورت والسروال الداخلي مجددًا ,يرى انعكاس وجهه في المرأة ويحدق فيه. طويلًا "لمن هذا الوجه؟"
 
يقترب أكثر من المرأة يتلمس الشعر الأسود,ينزع النظارة عن وجهه.يمر بأصابعه على الحاجبين,على العينين البنيتين وعلى الأنف
 "
لمن هذا الوجه؟"
 
يمرر يده على الشفاه الزهرية ومن ثم يقترب من المرأة أكثر ويقبل انعكاس الشفاه في المرأة "
"
لمن هذا الوجه؟
"أهو وجهه؟...نعم وجهه,لكني لم أره,لم يضعوا في الكتابة صورةً له حكوا الحكاية فقط عن اقتلاع عضوه الذكري ووضعه في علبة كبريت تناقلتها الأيدي في بيروت متباهيةً بهذه الغنيمة...لا لست يهوذا, لست يهوذا وان كنت قد قبلت شفتيه!" 
صوت ديكٍ يتسرب إلى أذنيه من منور الحمام.
"
لماذا يصيحُ ديكٌ في هذا الوقت من النهار؟ لا لا لست يهوذا و لا أي أحدٍ أخر أيها الديك! لا أعرف أصلًا من هو!" 
يمسح بكفه اليمنى حبات العرق التي تجمعت على جبينه مبللةً شعره.يحاول أن يطمئن نفسه.
"
نعم,نعم أنا لست يهوذا لم أكن قد ولدت أصلًا حين قتل,لم أكن قد ولدت لكن لماذا يحدق فيّ بهذه الطريقة؟"
يصرخ بصوتٍ عالٍ:"ما قتلتك,ما قتلتك بحلفلك انو ما قتلتك,مين انتا ما بعرفك,مين انتا مين؟ منان طلعلتلي بهاليوم الزفت!؟من قال لك أنـ....." يشعر أن كلامه قد أضحى صراخًا فيهمس من جديد:"من قال لك أنني,,"
تقرع أمه الباب:"شو باك يا ماما,صرلك شي ؟ ليش عم تعيط؟ "
"
ولا شي يا ماما ولا شي,كان في صرصور كبير بس قتلتو هلأ" يجيبها وهو ينظر إلى الباب الخشبي الأبيض منتظرًا ان تبتعد. ما ان يسمع صوت ابتعاد خطواتها يرفع رأسه إلى المرأة مرّةً أخرى
 "
لمن هذا الوجه؟أين ذهب الوجه الأول-الذي قبلت شفتيه؟"
راحة يده اليمنى ترعاه فيحكها,ينظر اليها
 "
يا لهذا الكم من الخطوط! من أين خلق الله لي كل هذا؟
يمرر يده الأخرى على الخط الثاني أسفل أصابع يده اليمنى وترتسم على وجهه شبه ابتسامة
 "
خط العمر طويل,سأعيش كثيرًا هذا ما قالته لي رنا,أذكر هذا جيدًا.قالت لي ذلك حين كنا في يومٍ من أيام الربيع الماضي في المقهى وقالت أنها هي ستعيش أيضًا لكنها ستعاني من المشاكل,نعم أذكر هذا جيدًا". 
يغسل يديه المتعرقتين ويرتدي نظارته متجنبًا النظر في المرأة ويخرج.
يدخل غرفته.شقيقه ليس هنا,يرتمي على سريره قدماه على الأرض المليئة بالمربعات الملونة.ينظر إلى الشباك
 "
لماذا وضعوا هذه القضبان على الشباك؟لما لم يزيلوها بعد؟لم نعد صغارًا لنقفز منه,لم يعد لدينا ألعابٌ لتقع منه,اخلعوا هذه القضبان؟لمن وضعت هذه القضبان!؟"
 يشعر أن الشباك يقترب منه ويبتعد,يخلع نظارته,يشعر أكثر باقتراب الشباك وابتعاده,يرى رجلًا واقفًا على حافة الشباك يدير الرجل رأسه ويبتسم إليه.
"
عمو عمو لماذا أنت واقف هنا!؟ انزل انزل!!"
 
لكن الرجل لا يسمعه ويقفز.
يقوم عن السرير مسرعًا لعله يستطيع اللحاق به أن يمسك بطرف قميصه أو بقدمه لينقذه لكن ضوءً شديد السطوع يعمي عينيه ويقذف به بقوةٍ هائلة إلى السرير.الكتاب مفتوحٌ بقربه على الصفحة 139: "...عرفت من قتل ابني وعرفت الطريق الذي يسلكه يوميًا إلى مقر حزبه وبعد مراقبته طوال شهر ألقينا القبض عليه وهو يمر في احدى الطرق الجبلية الفرعية التي يسلكها دومًا وبعد أن عذبناه واعترف بأنه هو من قتل ابني مع مرافقيه اللذين قبضنا عليهما معه قمنا بإفراغ عددٍ لا أذكره من أمشاط السلاح في أجسادهم ومن ثم عمدت إلى قطع قضيبه ووضعه في علبة كبريت كبيرة لم يبقَ أحدٌ في بيروت لم يرها.أما الناس اللذين كانوا يعبرون على الطريق في نفس وقت عبوره فقد أوقفناهم جميعًا وبعد أن تحققنا من هوياتهم تركنا القليل منهم ليمروا أما الباقين فطلبنا منهم النزول من السيارات والانتظار غير ابهين بصراخهم وتوسلاتهم.بعد ساعة انفجر عددٌ من السيارت التي كانوا يقودونها بعد أن فخخناها بكمياتٍ كبيرةٍ من الـ تي ان تي .كل الذين كانوا هناك ماتوا جراء التفجير جميعهم من عدة طفلةٍ صغيرة كانت ترتدي فستانًا أبيضًا ملطخًا بالدم والوحل وعندما رأيتها
يرمي الكتاب أرضًا.

"هل السوريون وحدهم من يقتل بعضهم بعضًا؟هل هم وحدهم ليسوا بشرًا ؟لماذا هذه الدهشة على وجوهنا عندما نرى ما يقترفونه في حق بعضهم البعض ألم نفعل في السابق مثلما يفعلون الآن؟"
 
يقول بصوت أقرب إلى الهمس:"شو يا عمو بس هني مش بشر متل ما كنت تقول!؟" :
يفكر مرّة أخرى:
"
ماذا عن تل الزعتر؟عن الدامور؟اهدن؟صبرا وشاتيلا؟ماذا عن السبت الأسود وأيام آخرى دامية؟عن أماكن وأيامٍ كثيرة أخرى مختلفة متفرقة؟ هل سامحنا بعضنا على ما جرى فيها؟هل سامحنا أنفسنا قبل أن نسامح بعضنا؟"
 قبل أن يقول بصوت مرتفعٍ : "15 سنة يا عمو 15 سنة,نحنا بشر شي؟" 
وكأن صراخه هذا أعاده إلى وعيه:ينتبه إلى أن انفجارًا ما قد وقع,يقترب من الزجاج الذي لم ينكسر رغم قوة الضربة.يحدق من الشباك. 
"
يبدو أن الانفجار حصل في منزل بواب البناء السوري,هل عمو هو من فجره؟هل ستندلع الحرب الآن؟" 
يبقي وجهه على الشباك يرى انعكاس أرضية الغرفة على الزجاج:مربعات كثيرة كثيرة مختلفة الألوان ويرى وجهًا "لمن هذا الوجه؟هاي يا أنت! من أنت!؟"
 يشعر بالوجه يتبدل لكنه لا يزال يشبهه ويواصل تبدله

 "
لمن هذه الوجوه التي تشبهني ,أنظر الى هذا انه يشبهنني كثيرًا لكنه يضع طربوشًا وله نفس عينيّ وهذا أيضًا له نفسه اللحية والأنف لكنه يرتدي عقالا,من هذا أيضًا هو كذلك يشبهني بشرته الحنطية وشفتاه تشبهان شفتيّ!! من هؤلاء؟من أنتم؟ من نحن؟" يتذكر ما قاله لصديقه اليوم:"العرب بدون 100 سنة ليصيروا حيوانات حتى قبل ما يصيروا بشر" 
وما قاله الشرطي الذي كان يطرد صاحب عربة الخضار العجوز من أمام مبنى البلدية:"العرب جرب لو شو ما عملو"
"
لكن من هم العرب؟ أليس الشرطي عربيًا؟ أو جارتهم التي لطالمت شتمت أهل الحيّ أليست منهم؟ أستاذه في الجامعة اللذي يؤكد دائمًا أن اللبنانيين شعبٌ تافه ألا ينتمي مثلهم إلى هذا الـ"لبنان"؟ أنا أيضًا ألست مثلهم؟ أنتمي لهذا الحي ولهذا اللبنان ولهؤلاء العرب؟ألست عربيًا أنا أيضًا؟لماذا هذه الوجوه كلها؟أنا أيضًا عربي,أنا أيضًا"
 
الوجوه لا تزال تتقلب على الزجاج.يضرب الزجاج بقبضته فيتناثر إلى الأسفل.
صوت منخفضٌ أكثر من الصوت الأول يوقظه مرّة أخرى وألسنة اللهب ترتفع من مكانٍ بعيد قليلًا.
يبدأ بالصراخ بشكل هستيري:"ولعت الحرب,ولعت,علقت مرّة تانية" يخرج من الغرفة وهو يواصل صراخه الهستيري ويبحث في المنزل عن أهله دون أن يجد لهم أثرًا.
"
اللعنة عليهم أين ذهبوا؟أمي اللعينة تركتني وحيدًا مرّة أخرى.ألهذا كانت نزقةً معي حين كنت في الحمام منذ قليل؟ تبًا لها"
يدخل إلى غرفة الجلوس ويشغل التلفاز,الشريط الأحمر أسفل الشاشة يشير إلى اندلاع حريقٍ في أحد المحال التجارية الكبيرة سببه احتراق أحد مولداته الكهربائية قبل أن يسمع صوت صراخ عدد كبيرٍ من الرجال فيخرج إلى الشرفة ليرى جارهم يحمل بواب البناية وهو يركض وجسد البواب مليءٌ بقطع الزجاج.
 
يبدأ بالصراخ:"شو صرلو الناطور؟شو هيدا الانفجار اللي طلع من عندو من البيت ؟قصفو قصفوا حاجي تقولو انفجرت قنينة الغاز قصفوا قصفوا وولعت الحرب تاع ساعدني يا عمو الحرب علقت وأهلي الكلاب تركوني لحالي وهربو"
تخرج والدته إلى الشرفة تمسك به,تحضنه وتدخله إلى المنزل لكنه سرعان ما ينتفض ويدفعها بعيدًا عنه 
"
انتِ تركتيني اغربي عن وجهي ,,لقد تركتني,كلكم تركتموني,كلكم" 
ويبتعد.
 
موسيقى مأتمية تنبعث خفيفةً من مكان ما,يغضب أكثر ويألمه رأسه أكثر يدخل إلى المطبخ يشرب كوبًا من الماء
 "
لما مذاق الماء هكذا؟لما هو مالح؟" يشرب كوبًا ثانيًا وثالثًا "لماذا هي مالحةٌ هكذا!؟"
يحدق إليه شقيقه وهو يرتشف كوبًأ من الماء: "مش مالحة ولا شي انتَ نقاق" ينظر الى شقيقه بغضب ويضربه بقوة على رأسه
"اخرس أنت لقد هربت معهم أيضًا وتركتني وحيدًا"

يدخل إلى غرفته مجددًا وينظر من الشباك ذو القضبان ها هي جارتهم الثلاثينية العزباء الذي يقوم دائمًا باستراق النظر إليها بينما تقوم بتغيير ثيابها بعد عودتها من عملها,ها هي تقوم بما اعتادت القيام به كل يوم.
ما ان يراها حتى يبدأ بالصراخ
"
أيتها العاهرة,أيتها الفاجرة هل هذا وقت عريك؟الآن وقد اندلعت الحرب هل هذا وقت 
عريك؟ ساقوم باغتصابك أيتها العاهرة وسأظل أقوم بذلك بشكل متواصل إلى أن أقتلك" يهم بالقفز من الشباك لكنه يقف,يتحسس أسفل معدته
 "
لا يزال هنا,سأمزقها,سأمزق جسدها الغض ولحمها الأبيض الطريّ,سأمزق ثيابها كلها وسأمزق شفتيها الزهريتين بأسناني وأبصقهما على وجهها,"
يخلع القضبان المهترئة والمتخلخلة ويقفز محاولًا الوصول إلى شباك الفتاة التي ما زالت تنزع ثيابها قطعةً قطعة لكنه لا يتمكن من الوصول إلى شباكها ويبدأ بالسقوط وهو يصرخ لكن لا صوتًا يخرج من فمه,يحاول أن يصرخ أكثر,
"
أين صوتي؟ لماذا لا أسمع صراخي" 
قبل أن يصطدم رأسه بالأرض أمام باب بواب البناء والدم ينزف من رأسه بغزارة.
_______
المقطع الذي تقرأه الشخصية من كتاب, مقتبس من ما رواه جوزيف سعادة عن عملية انتقامه من قتلة ابنه في أيام الحرب الأهلية الللبنانية,لكنني قمت بإعادة تخيل الحادث مع الإبقاء على حكاية علبة الكبريت , ولا أذكر إن كانت الفتاة بالثوب الأبيض من ما رواه   
سعادة أيضًا. \ ملاحظة أضيفت في 26\8\2012

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق