الثلاثاء، 4 مارس 2014

الصبي الرمادي



- I -

لنمعن النظر قليلًا في هذه الصورة. إنها صورة مؤلّفة من ثلاثة أبعاد: نرى في المقدمة امرأة تقف مع أولاد يقطفون الزهور. في المنطقة الوسطى، نرى أعشابًا برّية عشوائية النمو. أما في الخلفية فنرى أشجاراً في أعلى الزاوية اليمنى، أو ربّما أساسات لبناء قيد الإنشاء؟ لا فرق، فالصورة غير واضحة لنميّز ما في الخلفية.
لنتفق إذاً أنها صورة ببعدين فقط.
حين نحدّق في رأس المرأة المحجّبة، سنشعر بوجود شيءٍ ما في كعب الصورة. ننزل بأعيننا لنرى ولداً ثالثاً يجلس القرفصاء. لا يظهر منه غير رأسه وجزء صغير من جسمه. إذاً لدينا من جديد صورة بأبعاد ثلاثة. طريقة إحاطة الأولاد بالمرأة تشير إلى أننا أمام صورة عائلية لأمٍّ مع أولادها. خاصةً مع الألفة البادية في تعاطيهم مع المصوّر: انحناءة خجلٍ خفيفة من الأم، نظرة واثقةٌ من الصبي إلى يسارها، عفويةٌ من الصبي إلى يمينها، ومستكشفةٌ من الصبي تحتها، إضافة لغياب العناية بقواعد التصوير، وملامح الوجوه، لاهتزاز الكاميرا ربما أو لسوء التحميض. لكن إن كنّا حقًّا أمام صورةٍ عائلية، فلماذا لم ننتبه للصبي القابع في أسفلها منذ البداية، كأنّه غيّب عمدًا؟
دعنا ننظر للصورة مرّة أخرى. يمكننا ملاحظة مثلّثٍ مكوّنٍ من الرؤوس الثلاثة السوداء للأم والولدين الواقفين إلى جانبها، مما يعطيهم حضوراً أكبر، ويلفت الانتباه إليهم أسرع من الصبي الجالس أرضاً والذي يماثل لونه لون النباتات خلفه.
حقًا؟
قد يساعدنا التعرّف على زمن التقاط الصورة في توضيح السبب أكثر. رغم اللون الأبيض والأسود، يتكوّن لدينا انطباع أننا أمام صورةٍ التقطت في بدايات الربيع. الأزهار التي تحيط بالعائلة والفرح المرتسم على وجوه أفرادها. إضافة للثياب الطويلة الأكمام والتي تؤكّد أننا لسنا في الصيف أيضًا، وبأننا ما زلنا في بداية الربيع. ومن خلال الظلّين القصيرين لرأسيّ الأم والصبي إلى يسارها نستنتج أن الصورة التقطت عند الظهيرة، أو بعد ذلك بقليل. إذن شمس الظهيرة هي السبب الآخر في تغييب الصبي، كونها تسطّح أبعاد الصورة، محيلةً إياه إلى جزء من الأعشاب والزهور الموجودة خلفه؟

ــ II ــ

قد توضح حكاية الصورة لماذا لم يكن للصبي القابع في أسفلها ثقلٌ يذكر.
التقطت هذه الصورة في قريتي الجنوبية القريبة من ساحل صور، قبل سنة أو سنتين من الاجتياح الإسرائيلي. يظهر في الصورة كلٌ من جدتي وأعمامي الثلاثة، من دون بقية العائلة.
الصبي القابع في أسفل الصورة هو عمي مرتضى.
التقطت هذه الصورة قبل ساعاتٍ قليلةٍ من وفاته، إثر تعرضه لـ«لطشة كهرباء»، حين تطوّع لمساعدة العمال في توصيل الكهرباء إلى مدرسة القرية التي كانت قيد الإنشاء. حيث سقط شريط الكهرباء في بقعة من الماء على سطح المدرسة. وعندما حاول إمساكه، تكهرب وتوفى مباشرةً.
يبدو أن لا مكان لمرتضى في الصورة. وجوده المفتعل في أسفلها، كأنّ صورته ألصقت على الفوتوشوب، الغشاوة التي تغيّب ملامح وجهه أكثر من الباقين. ولونه المشابه للون العشب خلفه محا خصوصيته، محوّلًا إياه جزءًا من الطبيعة، لا كياناً قائماً بذاته. مثله مثل المبنى القابع في خلفية الصورة، وهو مبنى المدرسة بالمناسبة. كأنّ هذه الصورة كانت إنذارًا بغيابه. البناء البعيد غير الواضح المعالم في الخلفية، بعيد حتى يكاد لا يرى. الصبي غير الواضح المعالم في المقدمة والقريب حتى يكاد لا يرى.

ــ III ــ

...
ضحك والدي عليّ حين أريته ما كتبته. قال لي إن عمي مرتضى ليس من يجلس القرفصاء. ودلّني بإشارة من يده إلى أحد الصبيّين الواقفين قرب جدّتي.

ــ IV ــ

تلتمع في رأسي حادثة ذكرها كريستوف كيشلوفسكي: «في أحد الأيام كنت أشاهد فيلماً مع كاتبٍ كبيرٍ في السن ومخرج صديق لي. كلنا اعتقدنا أن الفيلم عادي تماماً، باستثناء الكاتب الذي أبدى إعجابه بالفيلم، وبالأخص المشهد الذي يدور في المقبرة، حيث يظهر رجل يرتدي ملابس سوداء. لا أنا ولا زميلي شاهدنا ذلك الرجل، زميلي أصرّ على عدم وجوده. لكن الكاتب أكّد أنه رآه. بعد أسبوع، مات الكاتب».

ــ V ــ


سأعترف بشيءٍ. والدي لم ير ما كتبت. كنت أعرف قبل أن أبدأ بالكتابة أن القابع في كعب الصورة ليس عمي المتوفّى بل أحد عمومتي الأحياء، لكنني كنت مأخوذاً بفكرتي فواصلت الكتابة. الآن سيبدأ بعضكم بتخمين أيٍّ من الصبيّين الواقفين قرب جدتي هو عمّي، غير منتبهين إلى أنني قد كذبت عليكم، وأن من يكذب مرّة يستطيع الكذب بشكل دائم.
من المؤكّد أنني لا أعرف تاريخ التقاط الصورة ولا مكانها. وقد لا يكون لي أدنى علاقة بها: وجدتها مرميةً على قارعة الطريق أو اشتريتها من سوق الأحد. الأشخاص الموجودون فيها قد لا يمتّون لي بصلة. قد تكون صوّرت في الجنوب أو الشمال أو البقاع أو في أي مكان آخر. الآن هل يستطيع مَن قرأ حكاية مرتضى أن ينزعها من رأسه ليؤلف للصورة حكاية أخرى؟
كازنتزاكيس فعل ذلك بأليعازر وسارماغو فعل ذلك بالمسيح. خالق الحكايات كما الراوي يكذب دائمًا، لا حاجة لتصديقه. على كلّ شخصٍ أن يخلق حكايته الخاصة، كذبته الخاصة.
*****
نُشر هذا النص في ملحق شباب السفير, في 26/ 2/ 2014

الأربعاء، 19 فبراير 2014

ثلاثة افتتانات عابرة بالسينما

ملاحظة: إن الذكريات المروية أدناه، هي ذكرياتٌ حقيقية، قام الكاتب بصياغتها فقط.

I

تفكّر: لو أن زوجها الحاج يستجيب لمحاولتها إقناعه بترك حفيدتها زينب تذهب للسينما، فإنّها ستود أن تذهب معها.
"...
أتذكر الآن كيف أضعت، قبل خمسين عاماً، الفرصة الوحيدة التي سنحت لي لمشاهدة فيلم في صالة السينما. أنهينا باكراً عصر ذلك الأحد، أنا وشقيقتي سعاد، درس الخياطة عند جارتنا ليلى التي دعتنا إلى مرافقتها للسينما. حاولت إقناع أختي الكبيرة، التي بدأت بالتدخين سراً قبل فترة قصيرة، بعدم الذهاب. أمي ستغضب كثيرًا إن تأخرنا في العودة للمنزل إلى ما بعد الغروب، وستغضب أكثر إن عرفت أننا ذهبنا إلى السينما. لكنها كانت متحمّسةً جداً، وقالت إن الفيلم سينتهي باكراً. أما أنا فقد خفت، وفضّلت العودة إلى المنزل وحدي. حصل يومها ما توقّعته، وامتد الفيلم لأكثر من ساعتين. وعندما عادت شقيقتي كان الظلام قد حلّ. صفعتها والدتي قبل أن تسألها أين كانت، وحرمتها من متابعة دروس الخياطة. لكنها لم تبالِ، وبقيت تتحدّث عن الرحلة التي امتدت من الأسعد في الشياح إلى سينما الأوريون في المشرفية، لفترة طويلة، حتى انطبعت الحكاية في ذاكرتي، كأنّني رافقتها: رائحة الزفت "المفلوش" في الشارع حديثاً، والممتزج برائحة شجر الصنوبر الممتد على طول الطريق. قاطع التذاكر العجوز الذي يغمز بعينه كل فتاةٍ تمر أمامه، مغازلاً إياها بكلمات غير مسموعة. الضوء الصغير الذي يخترق الصالة من أولها إلى آخرها، جاعلًا وجه محمد عبد الوهاب الجامد، والذي لم أرَه إلا على غلاف اسطوانة، يملأ الشاشة الكبيرة البيضاء. الشبّانُ الجالسون على الدرج المؤدّي إلى السينما، والذين "يلطّشون" بكلماتهم النساء القليلات الموجودات في الصالة".
تفكّر الآن: لو أنها رافقت سعاد، لما كلفها الأمر أكثر من "كفّ" واحد، والتوقف عن دروس خياطةٍ لم تكملها، بسبب زواجها بعد تلك الحادثة بشهر، وذهابها مع زوجها إلى قريتهما البقاعية.

II

يفكّر: لو أنّ كاميرا تسجل ما يقوم به في سجنه هذا، لكان أرسل ما تصوّره إلى والديه، وإلى ابنته زينب في بيروت، كما كان يفعل بالأفلام التي كان يسجّلها مع صديقه عماد في الماضي.
"
أتذكّر الآن أن الأفلام التي أحببتها أقل وملأتني أكثر كانت الأفلام الرديئة الصورة على تلفزيون مختار القرية. حيث تغيب الصورة ووجوه الممثلين في الظلال وتصبح أصواتهم غريبة، وبعيدة. كما لو أنني في حلم. تلك الأفلام، التي لم يبقَ منها في رأسي سوى صور باهتة، وحكاية ضبابية متقطّعة الأحداث، متناثرة، لا أذكر منها سوى إحساسي بضوء الشمس على وجه المرأة، وملمس الخشب العتيق لأبواب المدينة، وربما سخونة الدم على يديّ حين قتل أخٌ أخاه على الشاشة أمامي. "كما لو أنني في حلم"، أقول لنفسي، وأتذكّر طعم القبلة على شفتي المرأة التي رأيتها في المنام. أقول القبلة، وأزمّ شفتاي وأقربهما إلى الأمام. وأنتبه لنفسي أزمّهما، فأبدأ بتكرار الحركة مردّداً: "القبلة، القبلة...". كنت قد خرجت لتوّي من المنزل، عندما رأيتها هي نفسها، المرأة في الشارع أمامي. اقتربت منها، وقلت لها بفرنسيتي المتلعثمة أنني قد حلمت بها هذه الليلة تحديداً. لم تغضب ولم تنزعج. اكتفت بالابتسام فقط. تشجّعت وسألتها إن كانت تود الجلوس في مكانٍ ما. فقالت إنها ذاهبة للسينماتك القريب، وإنني أستطيع مرافقتها إن رغبت، فوافقت مباشرةً. عندما وصلنا إلى شباك التذاكر في السينماتك، ركض رجلٌ بسرعة ناحيتها. أطلق النار عليها وهرب. أحسست عندها بسخونة الدم على يدي حقّاً. جلست بقربها عاجزًا عن الحركة. لاحقاً أتت الشرطة، ورموني في السجن لانتهاء صلاحية أوراقي".
يفكّر: إنّها المرّة الأولى التي ينتبه فيها أنه رغم الأفلام الكثيرة التي شاهدها في المنزل، لم يكن قد ذهب إلى صالة السينما يومًا. بسبب بُعدها عن مسكنه ربما، وبسبب كلفتها العالية بالنسبة إليه. وأن السينما لم تصبح في متناوله إلا بعد سفره إلى فرنسا، حيث كلّفه دخولها في المرّة الأولى دخول السجن.

III


تفكّر: لو بقي جدها على قراره الرافض ذهابها للسينما، فإنّ ذلك أفضل من أن يوافق شرط مرافقة جدّتها لها، كما يفعل دائماً.
"
أتذكّر الآن ذلك اليوم حين أتى عماد من فرنسا، وأحضر لي معه مشغّل أقراص "دي.في.دي"، هديةً من أبي. ذلك اليوم تحوّل إلى عيدٍ حقيقي، لي ولسحر، التي كانت مدعوّة للنوم عندي. "لا حاجة بعد اليوم لأشرطة الـ"في.أتش.أس" الغالية الثمن، ذات الجودة المنخفضة. أهلاّ بأقراص الـ"دي.في.دي" المقرصنة، ذات السعر الزهيد والجودة العالية". قالت سحر بنبرة إذاعية. ليلتها، وبدل أن نشاهد الأفلام على الجهاز الجديد، جلسنا نتخيّل كميّة الأفلام التي سيتسنى لنا مشاهدتها من الآن فصاعداً، معدّدين أسماء أفلام الكرتون الكثيرة التي سنشتريها. بقينا نتحدّث حتى الفجر، إلى أن بدأ صوت القرآن يعلو من المسجد القريب. وصّلنا عندها الجهاز بالتلفاز، وشغلنا فيلماً اسمه "ألدورادو".
بعد دقائق قليلة كنا قد غفونا.
ومن أول ليلة جمعة تلت ذلك النهار، بدأنا بدعوة صديقاتنا في الصف لعروض أفلام الكرتون في منزلي. لكن مع تقدمنا في العمر، بدأ عدد من يقبلن دعواتنا يقلّ، لأنني بدأت مع سحر بشراء كل ما تقع أيدينا عليه من أفلام، حتّى تلك التي تحوي مشاهد جنسية أو للكبار فقط، مما أبعد بقية الفتيات عنّا. لنعود في النهاية وحيدتين كما كنا في البداية.
استمر الوضع هكذا إلى أن أتى جدّاي بعد انقطاع أخبار والدي ورحيل أمي. وقتها بدأ مصروفي يقل، ومعه عدد الأفلام التي نشتريها. وحين دعاني حسام للسينما قبل أسبوع. غضبت سحر كثيراً، وسخرت منه أمام الصف. لكنها غضبت أكثر عندما قبلتُ دعوته، وتوقفت عن محادثتي".
تفكّر الآن أن جدّها أحمق، لاعتقاده أن السينما هي سبب دخول والدها إلى السجن، مؤكّدةً لنفسها أنها ستنجح في إقناعه بالسماح لها بالذهاب للسينما برفقة الجدة، حيث ستجد هناك طريقة للتخلص منها، والانفراد بحسام.
*****
نُشر هذا النص في ملحق شباب السفير, في 12/ 2/ 2014

الثلاثاء، 11 فبراير 2014

عن الشخص في انتظاره الموت أو العزلة

مكتوب على دفتر الـرسم الأسود كالمعتاد، لكن من دون قلم الحبر الأسود الناشف، عيار 0.7.
***
يعرف الشخص أن ما يرغب به هو العزلة، وبأنه بدأ يحقّقها. لكنه يعرف أيضاً أنه عند نيلها سيلهث خلف الناس من جديد. لذلك يحزن بلا ندم، على وحدته كما على اجتماعه.
***
- "الناس بتتاخد بطريقة التعبير والتفاصيل المميّزة اللي بتذكرها. بس هيدا مش أهم شي عندك. أهم شي هني شخصياتك، شخصياتك اللي ما فيهن ياخدو حب ولا فيهن يعطو".
- "
ليه ما فيهن ياخدو حب ولا يعطو؟".
- ...
***
يجلس الشخص على الشرفة المزجّجة حديثًا. إذا فجّر رجل نفسه داخل سيارته في الشارع الآن لأصبح جسده هو كالـ"مُنخل" من شظايا الزجاج.
***
- "أنا؟ أنا عادية متل كل البنات".
- "
لأ، أبدًا.. صوتك كتير حلو، وبصير أحلى بس تسكتي لأنو بضلو مسموع، يمكن لأنّك بتحبي. إنتِ بتحبي؟".
- ...
***
يطلّ الشخص برأسه من الشباك، ويتأكّد من عدم وجود الرجل والسيارة اللذين فكر بهما. الشارع مقفر، لا سيارات فيه ولا ناس: إنّه الفراغ. الفراغ الذي بدأ بالتمدد داخل رأسه منذ أن بدأ يغزو الشوارع مع اقتراب كل غروب، محيلًا كلّ شيءٍ إلى كدرٍ عميق مجهول السبب والمصدر.
***
- "يعني ما جرّب خليكِ تحبيني؟".
- "
ما بعرف. إنتَ وشطارتك، جرّب".
- ...
***
يلاحق الشخص نقاط الضوء القليلة التي تعبر شوارع الجبل المقابل، ويعدّها. ويحاول تمييز أصناف الأشجار، مفكّرًا أنها تنتظر مصيرها بصمت: أن يلتهمها الباطون. يضحك ثم يفكّر بما ينتظره هو: انتهاء هذا الصيف السرمدي المتمدّد إلى ما لا نهاية؟ ربّما.
***
- "كنت تحكيني من قبل، ليه بطّلت تحكيني؟".
- "
إنتِ بطّلتِ تحكيني كمان".
- ...
***

يعرف الشخص أنه بانتظار شيءٍ ما. لا يعرف ما هو لكنه يعرف أنه ينتظره، وذلك على الرغم من يقينه أنّ شيئًا لن يتغير. مستعيرًا قول دانتي في دائرته الجحيمية الأولى - الليمبو: "عذابنا أنّنا نحيا بلا أملٍ أبد الدهر".

*****
نُشر هذا النص في ملحق شباب السفير, في 5/ 2/ 2014

الاثنين، 27 يناير 2014

جرح غير ملتئم


كانت تمشي بهدوء على الطريق المستقيم الطويل الممتد من مدخل الجامعة، حيث يقف، إلى مدخل الكلية حيث يدرسان. شمس ما قبل الغروب البرتقالية تضفي على خصلات الشعر الأشقر ألقًا غريبًا مُسكرًا.
تأكد من أن يديه تدفئان جيبيه جيداً، وانطلق في إثرها محاذراً أن تشعر به خلفها. وحين أصبح وراءها تماماً وامتلأت رئتيه بالرائحة الخفيفة لعطرها، مدّ يده برشاقة ملامساً يدها الصغيرة, فالتفتت إليه. إذ ذاك سقط الضوء البرتقالي على عينيها العسليّتين فأغمضتهما قليلاً وابتسمت، فرأى الجرح غير الملتئم أسفل العين اليمنى.
سألته: «وينك؟ إلك أكتر من شهر مختفي؟». وعندما لم تتلق جوابًا فتحت عينيها، وانتبهت إلى أنه يحدّق في الجرح. مررت أصابعها عليه وقالت إن السكين أفلت من أختها وأصابها: «كانت ريم حاملة السكينة بالعالي وعم تلعب فيها وأنا حاملة التفاحات، وكنا كتير مبسوطين، ما بذكر ليه. بعدين زحطت السكينة من إيدها وإجت تحت عيني..».
ابتسم مذهولا, دون كثيرٍ من اقتناع، وتمنى لها الشفاء. فكررت سؤالها له عن سرّ غيابه الطويل:
- «
إيه، ما خبرتني. وين مختفي كل هالوقت؟».
- «
كنت بالضيعة عم عدّ النجوم».
لم تنتبه لبريق الدموع في عينيه. كانا قد استأنفا سيرهما جنبًا إلى جنب، وكانت نظراتها مثبتة على صف أشجار البندق إلى يسارها. ضحكت وسألته:
- «
طيب وبالنهار شو كنت تعمل؟».
- «
كنت نام وأحلم أنو عم عدّ النجوم».
ثم أخذ يضحك بسخرية ليبدّد الدموع من عينيه. نظرت ناحيته وضحكت معه بفرحٍ، دون أن تنتبه لشيء. قالت له إن ضحكته جميلة، تجعل من يسمعها يضحك.
عندما أنهت كلامها وكانت تنظر ناحيته، التفت إلى جسمها الذي ازداد نحولاً وسألها إن كانت لا تزال تكتفي بالقهوة والدخان عوضًا عن الطعام، فهزّت رأسها إيجاباً.
- «
ومش عم تنامي منيح كمان. شوفي عيونك كيف صاروا حمر! هلأ بس نوصل ع الجامعة بشتريلك سندويش، بكرا ببطل حدن يتزوجك إذا ضليتي هيك، بلا أكل».
نظرت إليه ضاحكة: «أنا أصلاً ما بدي إتزوج». وانطلقت راكضة، تقفز من مربعٍ إلى مربع محاذرةً أن تدعس برجليها الصغيرتين على الخطوط المكوّنة لمربّعات إسمنت الأرضية. لحق بها بالطريقة نفسها، ثم قال وهو يواصل الضحك:
- «
طيب ببطل حدن يحبّك».
فأجابته وهي تبطئ من حركتها: «أنا ما بدي لا حب ولا إنحب».
- «
يعني ما جرب خليكِ تحبيني؟»، قال لها وقد عادا للسير ببطء وتوقفا عن الركض. فاستدارت نحوه وقالت بسرعة:
«
ما بعرف. إنتَ وشطارتك، جرّب». ثم ضحكت وضحك مفكّرًا وهو ينظر لنتف الغيوم البرتقالية، بأنها لم تدرك أنه إنما اعترف بالحب.
*****
نشرت هذه القصة في ملحق شباب السفير في 22/1/2014

الخميس، 23 يناير 2014

عودة المطر, الإطار.. (ق.ق.ج 2x)

عودة المطر.

تنهمر نقاط الماء ببطء على طرف الشارع, ويركض الأطفال في كلّ صوب مؤكدين عودة المطر. يسمع ربيع, غير مصدّقٍ صراخ الأطفال. فيترك ركوة قهوته الصباحية على النار ويهرع إلى وسط الشارع, ثم يسير إلى آخره بصمت. يمدّ يده إلى حيث يسقط المطر فتبتل. يرفع رأسه إلى الأعلى فيرى خيوطًا برتقاليةً تنبعث من بين الغيوم, ويفكّر بأنّ امرأةً ما تنظف حبال الغسيل من خراء الحمام. يركض تحت الماء, منعطفًا يسارًا إلى الشارع الآخر. حيث يحسّ بالمطر ينهمر ببطء على كتفيه.
"عاد المطر", يقول قبل أن يتمدد وسط الشارع فاتحًا فمه للسماء.
******

الإطار.


بحثنا طويلًا عن إطار يليق بصورتها. وحين وجدناه ووضعنا في داخله الصورة ألهانا ضجيج في الشارع عنه, فنسيناه على طاولة السفرة طويلًا.
كنا نجتمع على الطاولة عند الغداء ونمر بقربها عشرات المرّات كلّ يوم, بينما كان الغبار يبتلع الصورة ببطءٍ, ببطء.
وفي يوم ظهرت في المنزل طفلة لا نعرفها. اقتربت من الصورة, وببطء أيضًا أخذت تمسحها. وعندما شارفت على الإنتهاء, سقط من يدها الإطار وتناثر الزجاج على الأرض قطعًا صغيرة, وحين حاولت الإمساك به من جديد جرحت يدها بقطعة من الزجاج وتساقطت نقاط قليلة من الدم فوق العينين. جرّبت الصغيرة أن تمسح الدماء لكننا هرعنا إلى الطاولة وأبعدناها.
لملمنا الزجاج المتناثر, علّقنا الصورة في إطار بلا زجاج وسط الجدار ووقفنا نحدق به مسترقين النظر إلى الطفلة خلفنا تؤشّر إلى الصورة. لم نفهم ما تريد, لكننا أحسسنا بأن الصورة لا تلائم جو المكان.
أتيت بكرسي, أنزلت الصورة, رميت الإطار المجعلك في سلّة المهملات, والصورة وضعتها في خزانة زجاجية خلف فناجين قهوة مغبّرة وقرآن لم يفتح منذ زمنٍ بعيد. وقلت للباقين أنني سأشتري إطارًا جديدًا يليق بعينيها. مرّت الأيام نسوا ونسيت, والصورة بقيت في الخزانة تمسحها بنت صغيرة كل يوم حتى لا يأكلها الغبار.

الاثنين، 13 يناير 2014

ثقبٌ يبتلع الحزن


كنّا على طاولة الغداء، نأكل ونتحدث غير مبالين بالصمت المتواطئ الذي يملأ الأمكنة. لم تبكِ السماء دمًا ولم يلمع نجمٌ في الشرق أو ينخسف القمر، كان هناك فقط صمت مريب، في الجامعة، في الشوارع، في سيارة الأجرة وفي المصعد حتى. فجأةً سُمع دويٌ عظيم، وكان خراباً.
"
كأنّو علّق الشريط"، كذلك هي تلك الرغبة المرضية التي تصيبك بتكرار لحظةِ الانفجار، بتكرار لحظات النشوة الأبدية تلك، التي تحملك لهدوء ما قبل الخليقة والخطيئة، ما قبل آدم وقايين والجريمة الأولى والغراب. لا يقطعها سوى صوت واحد من نافذةٍ واحدة يتكرّر بمونوتونيةٍ غريبة: "الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر عليكم، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر عليكم، الله أكبر، الله أكبر.."، معلنةً بداية الانهيار وتدافع الناس إلى موقع الانفجار. فتعرف عندها أن هوسك بالتكرار هذا ليس إلّا لمعرفتك بأنّ ما سيلي ثواني الأبدية هذهِ ليس كما قبلها، متنشّقًا رائحة دمٍ تزكم الأنوف بدأت بالتسلّل إلى البيوت.
ثم تتنهد قائلًا: "نجوت". حتى قبل أن تتذكر من تحب ـ والديك، إخوتك، الفتاة التي تحب، أصدقاؤك وكل من تعرف أنهم يمرون في هذا الشارع ـ كأنّ القيامة الآن، أو كأنّنا في قيامة مؤقتةٍ قصيرة، بروفة لليوم الذي يفرّ فيه المرء من أخيه وأمّه وأبيه وصاحبته وبنيه، اليوم الذي لكل امرء فيه موتٌ يلهيه.
وبعد انقضاء ثواني الأبوكاليبس هذه، تبدأ الهواتف بالرنين مختلطةً بأصوات البكاء وسيارات الإسعاف ومذيعي الأخبار.
وحين يُسحب الموتى من الشوارع، ويُسيطر فراغٌ جنائزي عليها. تحسّ بحجرٍ رمي من السماء في فمك، بين المعدة والرئتين. لا أنتَ قادرٌ على بصقه ولا هو يعرف كيف يجد سبيله إلى الأمعاء خارج المعِدة. قابعًا في منطقةٍ وسطى، محيلًا كل محاولةٍ لإكمال الطعام، كما للتنفس، أمراً صعباً، بل شبه مستحيل. وتوشك أن تغيب عن الوعي، قبل أن تتذكر حكايةً للصغار قرأتها في كبرك عن صبيٍ بثقبٍ كبير في جسده يبتلع به الحزن. فتقرر أن القابع في جسدك ثقبٌ سيأخذ بالتوسّع إن لم تملأه، وتبدأ بالتنفس بكل ما أوتيت من قدرة، وبالأكل بكل ما أوتيت من فجع، لتشعر بالطعام ينحشر في معدتك ويجرح زلعومك، لتشعر بوجودك، ولا تشعر. كلما أكلت أكثر، يتسع الثقب أكثر ويضمحل وجودك أكثر.
تفتح هاتفك المحمول وتحاول أن تتصل بأي كان، لكن الخطوط مقطوعة. فتبدأ من شاشة الهاتف نفسه بمراقبة الأنبياء الرقميين يتقيؤون كلماتهم في الموقع الأزرق. متحسّسًا غباءهم الذي ينمو باضطراد مع ازدياد المعجبين بكلماتهم. قبل أن تعذرهم، مؤكّدًا لنفسك أن حاجتهم للأمان والتأكّد من وجودهم هي الدافع لكل هذا القيء. كما هي حاجتهم للإمساك بالفراغ الذي يطفو على حياتهم فجأة مبتلعاً كل شيء، الحاجة نفسها التي تكتب من أجلها هذا النص. تفكّر بذلك بينما تتحسّس الثقب الذي بدأ بابتلاع وجهك. يتقيّؤون كلماتهم ليشعروا بأنهم ما زالوا في اللعبة وبأنّ أحدًا ما بقربهم، ولو كان قرباً مزيّفاً. تحس باختفاء الهاتف من يدك اليمنى، تنظر إليها فلا تجدها. تتحسس بيدك اليسرى ما تبقى من وجهك، وتهرع إلى المرآة لتلقي نظرةً أخيرة عليه وأنت وتفكّر بأننا من شدّة تشابهنا، في الخوف والموت، صرنا عاجزين عن مواساة بعضنا. تصل للمرآة فتبصر شيئاً ما يضمحل بسرعة عاجزًا عن تمييزه، تستند بيدك اليسرى محاولًا إمعان النظر في المرآة أكثر، مفكراً بأننا عبءٌ على المؤرخ، عبءٌ على الرسام، كما يقول الشاعر، وبأنّنا مستعدون للتخلي عن قليل الحياة هذا لننجو من كل هذا الموت.
*****
نشر هذا النص في ملحق شباب السفير في 7/1/2014

الثلاثاء، 17 ديسمبر 2013

الغرفة الملوّنة في المدينة الرمادية

المدينة ضبابيةٌ, رمادية, تضحي كذلك بعد كل هطولٍ للمطر.
سائق سيارة الأجرة يضحك. مطلقًا نكاتًا لا يتفاعل معها أحد. السيارة امتلأت: بائس يجلس إلى جانبه في المقعد الأمامي وثلاث آنسات على المقعد الخلفي.
"...كل عامٍ تتكدس الخسارات الصغيرة, خسارةً تلو خسارة, كالبركة التي تتشكل من نقاط الماء المتساقطة على بلاط الغرفة."
أربعة صبية يلعبون كرة القدم على حافة الشارع, في خمسة أمتارٍ بأربعة. قربهم يمرّ شابٌ ملتحٍ وصبيةٌ محجبة يضحكان بخجلٍ محبّب.
"...يتشكّل الإنكسار ببطء, هزائم صغيرة لا نشعر بها: ضحكةٌ خبيثةٌ من "صديق", صوت رصاص يرتفع ثم يختفي دون أن تعرف سببه, رفضٌ "مهذبٌ" لدعوة إلى فنجان قهوة, قراءةٌ في دفتر الوالد إلى العم الشهيد: "كأنك لم تزل هاهنا/ أو كأنّك لم تزل بيننا/ كأنّ الليالي التي أرّقتني, أرّقتنا سويًا..."
من المسجل العتيق في السيارة تنبعث أناشيدٌ ثمانينيةٌ قديمة,.رديئة التسجيل, مجعلكة الكلمات. تنويعات متعدّدة للحنٍ وحيدٍ حزين.
"...هزائم صغيرةٌ لا تشعر بها: تلطُّخ حذاءك القماشي بالوحل, تجاهل الأستاذ لك في الصف, الوصول إلى المنزل بعد يوم متعب واكتشاف أن والدتك لم تترك حصّة من الطعام لك, تحاشي من تحب, وتجهل حبك لها, لقاءك وعكسها وجهة سيرها عند رؤيتك."
أشعة ما قبل الغروب تنبعث من بين نتف الغيوم برتقاليةً صفراء على أبنية الإسمنت الرمادية, وعلى السيارات المتهالكة التي تتالى ببطء شديدٍ على حاجز الدرك.
"...الإنكسار كما كل عام, يترافق مع إنهيار فريق كرة القدم الذي تشجّعه. الصفر تلو الصفر والهزيمة تلو الهزيمة. ثم قبل الموت بقليل محاولةٌ آخيرةٌ للنهوض تبقيك على الحافة دون أن تنهضك, لتعيد المحاولة الفاشلة من جديد في العام الذي يليه."
يقترب صبيٌ يبيع المحارم من السيارة, سرعان ما يصرفه السائق بحركةٍ نزقةٍ من يده. ينصرف الصبي وهو يقفز في برك المياه الصغيرة التي خلّفتها شتوة البارحة.
"...الإنكسار أن تتضمحل كبركة ماءٍ صغيرة تتشرّبها الأرض ببطء, ببطء بينما يتكاثر العابرون حولها دونما اهتمام."
المدينة لا تكون حزينةً عند سقوط المطر بل في اليوم الذي يلي سقوطه, كأنها طالعةٌ من حربٍ طويلة.
"...الإنكسار هو أن تسترجع إنكساراتك السابقة كلها, بتفاصيلها وهزائمها لتكشف أن سوءًا كبيرًا لم يحصل معك, وأن موتًا لم يصيبك. لكنك كأي برجوازيٍ صغير, مستغرق في ذاتك حتى العبادة."
الشرطي يقف قرب عربة القهوة يرشف فنجانه ببطء. سائقو السيارات يطلقون "زماميرهم" غاضبين, بينما يواصل سائق سيارة الأجرة محاولة إضحاك الصبية الباقية في المقعد الخلفي. ينزل الشاب من المقعد الأمامي ويعبر بجانب السيارات المتوقفة على طول الطريق مفكرًا بغرفته الملونة حيث سيستسلم للنوم: " أيّها النوم، يا سيّد العطايا أنت، لماذا تطلّ و تذهب كالقمر؟ أيّها النوم لماذا لست كالحجر، كالسنديانة ، دائماً قاعداً لا تذهب و لا تختبىء؟ وحدك الانقاذ أنت، لا الكتابة و لا الحب.*"

________
* السطرين الأخيرين "أيها النوم..." مقتبسين من كتاب المظلة والملك وهاجس الموت, يوسف حبشي الأشقر, 1980.